الدولة مسؤولة عن قضية المواطنة والانتماء ولها الذراع الكبرى فى تشجيع الهوية أو طمسها
فى الأسبوع الماضى عقدت عدة ندوات بمعرض الكتاب وبكبرى المؤسسات الصحفية لمناقشة قضية «المواطنة والهوية»، وقد كانت مناقشة ثرية شارك فيها العديد من مفكرينا وكتابنا المتميزين، إلا أننى دائما ما أجد أن تلك القضية «المواطنة والهوية»، يتم مناقشتها من خلال طرف واحد ونسق واحد وبلغة متكلفة رمزية أعلى بكثير من مستوى الطالب المتوسط، فهى من طرف واحد، لأن أغلب الآراء تنظر لها من خلال دور الفرد وليس دور الدولة، ومن خلال نسق واحد، لأنها غالبا ما تتم قراءتها على المستوى الفكرى أو الدينى أو الثقافى بينما الأجدر فى هذا العصر أن تتم قراءتها بطريقة اقتصادية بحتة، فلا يمكن أن نطرح على المائدة أفكارا وننسى تقديم الطعام خاصة لو كانت الأفواه جائعة.
من وجهة نظرى المتواضعة فالمواطنة والهوية هم شكل من أشكال الانتماء أو من مرادفاته إذا أردنا التدقيق. والنظر إلى الانتماء على أنه شعور فطرى غريزى ينتشر بالأغانى الوطنية أو بالتراتيل الدينية نوع من الاستسهال فى تقدير هذه العلاقة الجوهرية، فالشعور بالوطن هو أساس الانتماء والمواطنة. والشعور بالوطن متغير وليس مقدسا أو ثابت، فالتجربة الإنسانية فى شتى أنحاء العالم تؤكد أن الانتماء ليس بشهادة الميلاد، بل بما تعطى البلاد. ولا نستطيع أن نطرح قضية الوطنية أو الهوية بعيدا عن هذه القاعدة، خاصة إذا نظرنا لها كسلوك وليس كمجرد إحساس مرتبط بمكان معين أو أشخاص بعينهم، فالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا كل هذه الدول صنعتها جاليات مغتربة لم يكن لها هوية واحدة ولا دين واحد ولا ثقافة واحدة، بل جمعتها الفرص الاقتصادية والمجتمع المتسامح وهى الآن من رموز المواطنة وأكثر من فهما واستفاد منها، لذلك أتصور أهمية دخول الدولة فى هذا النقاش، خاصة ونحن نعيش متغيرات اقتصادية فى غاية القسوة على الكثيرين، كما نمتلك سجلات هائلة من الفساد المتراكم عبر عشرات العقود الذى يؤكد أن المواطنة والهوية والانتماء مجرد كلمات نرددها بلا فهم أو وعى، فأين نحن من هذه المعانى والمشاعر السامية إذا كان تصنيفنا من أوائل الدول على مستوى الفساد، هناك ارتباك واضح فى فهم هذه المصطلحات، وعلينا أن نواجه الحقيقة.
فالدولة مسؤولة بشكل كامل عن قضية المواطنة والانتماء ولها الذراع الكبرى فى تشجيع الهوية أو طمسها، فالانتماء يأتى بقدر الاكتفاء، ولا أعنى هنا أن الدول الفقيرة أو ذات الموارد القليلة أو النامية ليس لها نصيب فى هذا، بل على العكس تماما فالانتماء الحقيقى لا يظهر إلا فى الأزمات، لكن دور الدولة هو الذى يحدد ذلك، فلا يمكن مثلا أن أطالب شعب بالتقشف بينما الناس تعرف أن مصروفات المسؤولين أقرب للسفه، لا يمكن أن أسأله على تحمل الفقر والغلاء وهو يرى الفساد يرتع بلا حساب أو عقاب فى كل أرجاء البلاد، وكيف أقنع شعبا بتحمل سوء الخدمات الطبية والتعلمية والأمنية.. إلخ، بينما الإهدار والإهمال هما سمة المؤسسات الحكومية. وكيف أطلب منه النظافة والنظام بينما الشوارع متسخة متهالكة وفى العشوائيات كالأنقاض. كيف أطالبه بالمواطنة واحترام الحقوق وهو يعرف أن حقوقه لا تأتى إلا بالرشوة والمحسوبية والطرق الملتوية. كيف أسأله عن انتماء سلوكى وحضارى للدولة إذا كان لا يشعر بوفاء هذه الدولة وعدالتها واحترامها لآدميته، الإنسان ليس كالبعير ينتمى لأى قطيع لمجرد أنه ولد فيه، بل يحتاج لحقوقه من الوطن ليشعر بالمواطنة، ويحتاج للكثير من عوامل الاكتفاء ليدرك معنى محفز للبناء والانتماء، أما لو كان الوضع سيستمر بالأغانى الوطنية واللعب على أوتار العقائد والأديان والتشدق بمصطلحات عاطفية أو البحث فى الثقافة الشعبية، فسوف نستمر هكذا، شعب يحب وطنه بالغناء والكلمات ويبخل عنه بالعطاء والبناء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة