فى أقل من عشرين يومًا، انقلب رب البيت الأبيض الجديد، دونالد ترامب، على طهران، ليكتب نهاية العهد الذى دشنه سلفه باراك أوباما، وتم خلاله التوصل إلى اتفاق نووى برعاية الدول الكبرى، ليأتى "ترامب" بعد أقل من شهر على دخوله البيت الأبيض وإمساكه بمقاليد الأمور فى واشنطن، بسياسة مغايرة، عنوانها الصدام المباشر، مستعيدًا أجواء التوتر فى العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية من جديد.
دونالد ترامب
السياسة الأمريكية الجديدة، وفق ما يظهر فى تصريحات "ترامب" وتحركاته، يبدو أنها تسعى لتحجيم التمدد الإيرانى الذى حظيت به "طهران" خلال العهد السابق، إذ استطاعت فى ضوء تخفيف الضغوط الدولية عليها، عقب توقيع الاتفاق النووى مع مجموعة الدول الست الكبرى، إحراز تقدم ملحوظ فى إدارة الملفات الإقليمية، سواء فى سوريا أو اليمن أو لبنان، بل وحسمت بعض هذه الملفات لصالحها، غير أن تبدل الظروف مع دخول مرحلة "ترامب" وسياسته المعادية لإيران، يدفع فى اتجاه آخر، ويقدم احتمالات كبيرة لتغير بعض مراكز القوى فى المنطقة خلال الفترة المقبلة.
توترات طهران وواشنطن تفسح مجال الحركة للمملكة
حالة الشد والجذب بين طهران وواشنطن، أعطت مساحة لمنافسى إيران الإقليميين، وفى مقدمتهم المملكة العربية السعودية، للتحرك السريع فى الملفات المفتوحة بالمنطقة، واستغلال هذا التوتر بحثًا عن مساحة لفرض نفوذ جديد، وهو ما ظهر بوضوح فى الملف اللبنانى، الذى شهد خلال الفترة الأخيرة سطوة إيرانية كبيرة، عززت من مكانة حليفها "حزب الله" على الصعيد السياسى وداخل بنية الحكم فى لبنان، وبدأ الأمر بانتخاب الرئيس ميشال عون، الموالى للحزب، مرورا بتشكيل حكومة يسيطر على مفاصلها "حزب الله"، وصولاً إلى رفض قانون انتخابات لا يوفر له الغلبة البرلمانية.
وزير الدولة السعودى لشؤون الخليج يقود مرحلة تحول سياسة الرياض فى بيروت
التحرك السعودى على هذا الصعيد ظهر جليًّا من خلال إيفاد وزير الدولة لشؤون الخليج العربى، ثامر السبهان، للعاصمة اللبنانية بيروت، فى زيارة استغرقت يومين، حملت دلالات ورسائل إقليمية واضحة، وكان أولها تأكيد "السبهان" أنّ "لبنان من الدول المهمّة لدى المملكة، التى تسعى لأن تكون علاقاتها السياسية معها مميزة"، مشدّدًا فى حوار مع صحيفة الجمهورية اللبنانية، على "حرص السعودية على وحدة لبنان، ووحدة الصفّ بين اللبنانيين".
وحمل "السبهان" بشائر كثيرة لبيروت وقادتها، إذ أكّد أنّ السفير السعودى الجديد سيكون قريبًا من منظومة الحكم فى بيروت، ونوَّه بأدوار الرؤساء ميشال عون ونبيه برى وسعد الحريرى، والنائب وليد جنبلاط، زعيم الدروز اللبنانيين، لافتا إلى أن الاستحقاق النيابى شأنٌ لبنانى بحت، إلا أنه يأمل فى أن تكون الانتخابات مراعية لمصالح لبنان واللبنانيين، وألّا تكون مجحفة لحق أى مكوّن لبنانى، مشدّدًا على أن المملكة تدعم كل توجه وأى قانون انتخابى يحقق العدالة للجميع.
مراقبون: الموفد السعودى زار بيروت حاملا عنوان المرحلة الجديدة فى المنطقة
على صعيد قراءة التحركات السورية الأخيرة، يبدو أن الموفد السعودى رفيع المستوى ـ كما يؤكد مراقبون ـ لم يأت ليبشر بعودة السفير أو رفع الحظر عن السياحة، وهى الرسائل التى كان من الممكن نقلها عبر موفد آخر، على مستوى سياسى وتنفيذى أقل، وإنما زار "السبهان" بيروت حاملا عنوان المرحلة الجديدة فى المنطقة، ومبشّرًا بأن الملف اللبنانى لن يكون بمنأى عن الخلافات التى ظهرت بين إيران وأمريكا مؤخّرًا.
صحيفة الأخبار اللبنانية: زيارة "السبهان" ليست سطحية والرجل جاء بسلّة تنبيهات مثقلة
بدورها، أكدت صحيفة الأخبار اللبنانية أن من ينظر للزيارة فى هذا التوقيت بالذات على أنها "سطحية" لهذا الحدّ، يخطئ خطأ كبيرًا، فالرجل الذى تُسجّل له زيارة ثانية للبنان فى أقل من أربعة أشهر، لا بدّ من أن يأتى بسلّة مثقلة بالتنبيهات، على عتبة تحديات تنتظرها المنطقة، منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثمّ فهى "أبعد من كونها زيارة ودّية".
وأكدت صحيفة الأخبار فى تقرير لها، أن الموفد السعودى نقل إلى المسؤولين اللبنانيين تأكيدًا على أن "شهر العسل بين إيران والولايات المتحدة قد انتهى، وأن الصراع بينهما سيُستأنف، وعلى اللبنانيين أن يكونوا حاضرين لمرحلة جديدة من المواجهة".
مصادر لبنانية: هناك ارتياح خليجى لسياسة "ترامب" بتقاسم النفوذ مع إيران
وأشارت مصادر لبنانية، إلى أن هناك ارتياحًا خليجيًّا كبيرًا للسياسة "الترامبية"، خصوصًا أن دول الخليج كانت متضررة من سياسة الرئيس السابق باراك أوباما، التى فضّلت أن يتقاسم العرب النفوذ مع إيران فى العراق وسوريا ولبنان، وهى اليوم "ستكون أكثر المستفيدين من رفض دونالد ترامب لهذه السياسة، وتأمل من وراء هذه التغيرات فى تقلص النفوذ الإيرانى بالدول الثلاثة".
ويبدو أن الرياض بدأت بالفعل فى اتخاذ إجراءات مغايرة وقطع خطوة للأمام، إذ استغلت انشغال طهران بإحراز تقدم لصالحها فى الملف اللبنانى، خاصة أن بيروت تشهد خلافا حول التوصل لقانون انتخابى جديد، ووصلت الأطراف خلال الفترة الماضية لطريق مسدود، بسبب إصرار الرئيس عون وحزب الله وحلفائهما على قانون قائم على النسبية الكاملة، فى حين يقف سعد الحريرى، رئيس الوزراء اللبنانى وحليف دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية، عاجزًا عن الإبقاء على الصيغة القانونية القديمة، وهى الصيغة الوحيدة التى تؤمِّن له أغلبية نيابية.
عون والحريرى
الحضور السعودى فى الملف اللبنانى.. الرئيسان عون والحريرى على خط الرياض
كانت السعودية قد بدأت مد يد العون لـ"سعد الحريرى"، وحليفه الدرزى وليد جنبلاط، لتأمين أغلبية نيابية لهما فى المجلس المقبل، على حساب عدوها الأول فى لبنان، حزب الله الشيعى، واعتبرت الأوساط اللبنانية أن التصريحات التى أدلى بها وزير الداخلية اللبنانى، نهاد المشنوق، بعد استقباله الموفد السعودى ثامر السبهان، التى دعا فيها رئيس الجمهورية ميشال عون لإعادة النظر فى مواقفه حول العديد من الأمور، وأهمها قانون الانتخاب، إشارة على سعى المملكة لحسم هذا الخلاف بما يصب فى صالح حلفائها.
واعتبرت بعض المصادر، أن تزامن تصريحات "المشنوق" مع زيارة "السبهان"، يعنى أن السعودية ليست بعيدة عن هذه الأجواء، وأنها بدأت تلقى بثقلها فى الملف اللبنانى، لتأمين تسويات تضمن لحلفائها الاستقرار السياسى فى العهد الجديد، وذهب البعض إلى تفسير الرسائل السعودية بأنها تخيّر الرئيس ميشال عون بين الاستمرار فى التشبث بدعم قوانين انتخابية خلافية وذات بعد إقصائى، وبين الاستفادة من حالة الدعم الكبير الذى أعلنت عن تقديمه للبنان، من خلال تعيين سفير جديد، وإعادة السياحة الخليجية للبنان، والحرص على دعم الجيش اللبنانى ودفع عجلة الاقتصاد قُدمًا.
الصورة الأخيرة والأكثر وضوحًا من كل التطورات التى تشهدها الساحة اللبنانية خلال الشهور الأخيرة، تؤكد أن الملف اللبنانى مرشح لمزيد من التفاعلات والتحولات خلال الأيام القليلة المقبلة، على وقع الخلاف الأمريكى الإيرانى، والخلاف بين الأطياف اللبنانية حول صيغة قانون الانتخابات الجديد، وتحركات السعودية لإحراز تقدم يضيف لمصالحها فى هذا الملف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة