من نعم الله على مصر أن منحها تنوعا جغرافيا شديد التميز والخصوصية، ففى كل منطقة من مناطق مصر المتعددة شخصية حضارية مستقلة ومندمجة فى آن.. تختلف سيناء عن النوبة، وتختلف النوبة عن الدلتا، وتختلف الدلتا عن الواحات، وتختلف الواحات عن الصعيد، ويختلف الصعيد عن الساحل، وفى كل منطقة من هذه المناطق أكلات شديدة التميز والخصوصية أوشكت للأسف على الانقراض، بسبب مشروع طمس الهوية المصرية الذى يعمل الآن بكامل طاقته، ولهذا يجب على مصر أن تنتبه جيدًا لتحافظ على أكلاتها المميزة من الاندثار، وننسى جانبًا غاية فى الأهمية لحضارة مصر.
إننى أدعو وزارة الثقافة إلى أن تقوم بدورها فى الحفاظ على التراث المصرى، وتنشئ أول أرشيف موسع لجميع الأكلات المصرية، ربما ترى هذا الأمر هينًا أو ترى أنه أقل من أن يصبح مشروعًا وطنيًا، لكننى فى الحقيقة لا أوافقك الرأى فيما ترى، لأن الأكلات ليست أداة من أدوات الحياة فحسب، وليست عاملًا من عوامل الدعم الجسدى فحسب، إنما هى دليل إبداع وعبقرية خاصة لكل شعب من الشعوب، ومثال واضح وملموس على هذا الحوار الذى أقامه الإنسان مع بيئته ومعطياتها، وإننى أدعو من يكذبنى فى هذا إلى النظر إلى طريقة غزو أمريكا للعالم، وطريقة فرضها طابعها الخاص الذى لم تجد وسيلة لتحقيقه أفضل من نشر أكلاتها الغريبة على المحيط العالمى، فأصبحت كلمات مثل «كنتاكى» و«ماكدونالدز» و«هارديز» لا تدل على مجرد أكلات فحسب، إنما تدل على طريقة حياة وفرض هيمنة ومصدر ثروة.
إننا نضيع جزءًا من تاريخ مصر كل يوم حينما نسمح لهذا التراث الكبير بالاندثار، وللأسف فقد نشأ جيل كامل لا يعرف عن أكلاته الشعبية المتعددة شيئًا، ناهيك عن أن كل منطقة نادرًا ما تعرف شيئًا عن أكلات المناطق الأخرى، فلا يعرف الصعايدة شيئًا عن أكلات بورسعيد، ولا يعرف أبناء الدلتا شيئًا عن أكلات سيناء، وفى العادة لا يحاول أحد الاقتراب من تلك المنطقة، وكأنها منطقة «تافهة» لا تسترعى انتباهه، وهى فى الحقيقية من أهم ملامح خصوصية كل شعب، والدليل أن أى سائح يأتى إلى أى بلد فإن أول شىء يسترعى انتباهه هو أكلات هذا البلد، وأول ما يحبه أو يكرهه هو أكلات هذا البلد، وأول شىء يسأل عنه هو أكلات هذا البلد، وفى هذا يتفاخر البعض على البعض، وتنشأ معارك تاريخية بين البلاد حول أصل ونشأة أكلة ما، فلماذا نترك تراثنا الوجدانى تائهًا؟
نشر هذا المقال فى 12 يونيو 2016 وأعيد نشره مرة أخرى، ففى الإعادة إفادة.