مصر فى مخيلة المصريين لا شك أنها منذ العام 2011 صارت مهزوزة، حيث ظهرت كل متناقضات مصر والمصريين. لذا فقد بات من الملح إعادة بناء صورة مصر مرة أخرى. بصورة أكثر عصرية. ففى كل مرحلة فارقة فى تاريخ مصر، تتغير صورة مصر، هذه الصورة تجعل مصر تكتسب وجهاً جديداً ذا حيوية تتناسب مع المرحلة الجديدة فى تاريخ الوطن، هنا يبرز سؤال للقارئ ما هى المراحل التى تغيرت فيها صورة مصر؟
المرحلة الأولى: هى عندما هجر الإنسان الصحراء التى كانت غابات وارفة بالنباتات والحيوانات، حيث أسس الإنسان المصرى حضارة عمقها طبقاً لأحدث التقديرات 200 ألف عام، ومازالت هذه الحضارة بقاياها ماثلة للعيان فى العوينات والصحراء الغربية ووديان الصحراء الشرقية، فى المرحلة الجديدة التصق المصرى بالنهر مورد المياه الذى بنى على ضفتيه زراعة ثابتة وبنى القرى والمدن وابتكر علوم الفلك والرياضيات والطب.. إلخ.
المرحلة الثانية: حين غزا الإسكندر مصر، فبدلا من أن يكسب الغازى وخلفاؤه مصر وجها يونانيا محضا، اكسبته مصر حضارتها لأن الحضارة اليونانية هى صورة من حضارة مصر، فضلاً عن أن اليونانيين هاجروا لمصر بكثافة منذ عصر الأسرة26، فاستقروا لذا لم يكونوا غرباء عن مصر.
المرحلة الثالثة: مع دخول العرب مصر، وكان العرب لهم وجود فى قفط قبل ذلك، وتجارة مع مصر، فضلاً عن البحث العلمى أثبت أن اللغة العربية والمصرية القديمة بينهما مشتركات كثيرة فكلاهما من لغة أم واحدة، ولم يجبر الفاتح الجديد المصريين على اعتناق دينه فكان أن اندمج من أهل مصر سواء اعتنقوا دينه أن لم يعتنقوه.
المرحلة الرابعة: مع حكم محمد على وأسرته لمصر، فى هذه المرحلة بدت مصر وكأنها تنشل العرب من القيد التركى الذى قيدها نحو الانطلاق، هنا تتحرر مصر وتنطلق لتشكل مجلسا للنواب ودستور وحكومة عصرية، حتى حينما احتلها الإنجليز لم يستطيعوا فرض نفوذهم كاملاً عليها، بل كانت النخبة تدير مصر تحت ضغط الاحتلال، ومه الاستقلال بعد اعلان 28 فبراير 1922 سعى الملك فؤاد إلى اعطاء مصر شكل مختلف فغير العلم الوطنى إلى اللون الأخضر بعيدا عن اللون الأحمر التركى وافتتحت سفارات لمصر فى لندن وباريس وموسكو وواشنطن، وبدأت روح وطنية فى الاقتصاد عبر بنك مصر.
المرحلة الخامسة: مع ثورة 23 يوليو 1952م، التى أعادت توزيع الأرض وتبنت سياسات أكثر استقلالية عن المستعمر، وبدت مصر وكأنها تقود العرب وافريقيا، ومصر تحولت للاعب يحسب حسابه على الساحة الدولية، ولولا نكسة يونيه 1967 لكان الأمر مختلف الآن.
لكن مع ثورة يناير 2011م وما أعقبها فى 2013م، بدت مصر الآن فى حاجة لإعادة بناء صورتها مرة أخرى، الصورة هنا ليست تتعلق بالاقتصاد والمشروعات فحسب بل تتعلق بكل رموز الدولة وآلياتها، فسياسات الماضى باتت فى حاجة إلى تغيير جذرى يتناسب مع المعطيات الجديدة للعصر الذى نعيشه، فالنمو الاقتصادى حتى حقق 8% أو 9% وهى من أعلى نسب النمو، دون تحقيق جودة الحياة للمواطن لا معنى له، فالعالم الآن يقيس معدلات النمو ليس بنسبتها فحسب بل بمدى تأثير هذا النمو على جودة ورفاهية المواطن وسهولة ويسر الحياة، لذا فإن القادم فى مصر لن تصوغه الحكومة بمفردها، بل سيصوغه معها المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني، فصورة مصر هنا هى التحدى فى عصر العلم، وعدم قبول مصر هذا التحدى معناه أن صورة مصر ستظل دولة الفهلوة والفساد والأونطجية هذه الصورة التى عكستها أفلام سينما المقاولات فى السبعينات ثم فبلم حين ميسرة لخالد يوسف ثم عشوائية البناء حتى فى حى كمدينة نصر التى خططت لكى تصبح طوابق بنياتها 5 طوابق وبسبب فساد حى مدينة نصر والمقاولين والمهندسين، تصبح الطوابق 11 طابق حتى فى المنطقة التاسعة، فيطفح الصرف الصحى وتنهار شبكة المياه والكهرباء بمباركة من الدولة، مثل هذا المثال يحتاج إلى إعادة نظر ومواجهه وإلا فصورة مصر هى بنايات من 5 طوابق إلى جوارها بنيات من 11 طابق الاثنين المتجاورين يعكسان صورة حى فاسد ومجتمع فاسد وأفراد فاسدين، هذه الصورة هى الراسخة فى أذهان الأجيال الجديدة التى لا تؤمن بالدولة التى ترسخ فساد البنيان كصورة ماثلة للعيان مصدقة راسخة عند الأجيال الجديدة، وبدون مواجهة هذه الصورة الصادقة للفساد، فإن صورة الدولة لدى هذه الأجيال ستظل مهزوزة غير حقيقية، لذا فحين ينادى بعض الشباب بسقوط الدولة يجدون صدى لدى جيلهم، لأن هذا الجيل كيف يصدق الدولة، وهى لا تستطيع نفى الصورة البصرية للفساد فى عمارات مخالفة لكل قواعد التخطيط والعمران فى الإسكندرية وطنطا والمنصورة.
هنا الإجابة على الأسئلة بصورة مقنعة هى التى تقودنا إلى بناء صورة مصر، التى يجب أن تكون ممتدة من عمق التاريخ إلى الحاضر، فالدولة التى مازالت تعتمد الورق كمسند ولا تعتبر الرسائل الالكترونية "الميل" مستند هى دولة لن تستطيع إقناع أجيال تقارن بين الدول عبر شبكة الإنترنت، فلا يمكن لدولة تحتاج أن تكسب ثقة شبابها، أن تعذب هذا الشباب فى التعامل مع شبابيك موظفيها، فالدولة هنا إن لم تعصرن قطاعاتها فستواجه الإحباط لدى شبابها.
إن أكثر ما يحبط فى مصر هو الإعلام، فالصورة منذ عصر التليفزيون هى التى تكون معرفة الجمهور، وهى كذلك فى عصر الإنترنت، لكن مع غياب الصورة الحقيقية لصالح صورة سطحية تركز على الترفيه والاستهلاك وتستبعد العمق الذى كان مع برامج مثل عالم البحار لحامد جوهر أو برنامج ثقافى لفاروق شوشة أو حتى برنامج للتكنولوجيا ليوسف مظهر أو للموسيقى العربية لرتيبة الحفني، هذه البرامج شكلت معارف أجيال وللأسف القنوات الفضائية الخاصة والحكومية تعتبرها لا لزوم لها، فى حين أن الملتقى وهو مستهلك هذه المادة الإعلامية له حقوق على هذه القنوات يجب فرضها على هذه القنوات.
هل هناك آمال فى مصر؟
فى حقيقة الأمر إن هناك آمالا عريضة فى إعادة تكوين صورة مصر مرة أخرى، بدءاً من التعامل مع جدية الصعيدى المثابر المحب للعمل الجاد هذه الشخصية التى تشبه شخصية الألمانى فى عمله، فى الوقت الذى يسخر فيه الاعلام المصرى الوطنى من الصعيدى الجاد لحديثه، هنا يجب اعادة التركيز على بناء شخصية المصرى الجاد كالصعيدى الجاد الذى هو المصرى الأصيل، إن مشروعات مثل جامعة النيل، مدينة زويل للعلوم، مكتبة الإسكندرية، مصر الخير وغيرها تبعث على الأمل فى مصر، لكن إذا كنا نرغب فى مزيد من الأمل فعلينا أن نجعل العلم والتعليم مدخلاً أساسيا لبناء شخصية مصر المعاصرة، فيجب رفع قبضة الدولة عن جامعة القاهرة وعدم فرض أعداد عليها فوق طاقتها، واطلاق يدها فى البحث العلمي، لكى تنافس على الصعيد الدولي، يجب إعادة بحث مشروع مدارس النيل بجدية مطلقة، لكى يكون لدينا مشروع وطنى للتعليم معاصر، كما أنه بجى تعليم النشء ما هى مصر؟ هنا لابد من إعادة كتابة التاريخ الوطنى فى إطار تقييم سلبى وايجابى لكافة المراحل التاريخية، وليس عبر نصوص يتلاقها الطالب ليحفظها، فعصر أسرة محمد على لم يكن كله ايجابيات وليس كله سلبيات، وهذا يطبق على عصر الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات.من هنا تبرز ضرورة إعادة النظر فى كتابة التاريخ المصرى ليكون تدريس التاريخ تفاعليا عبر العديد من الطرق التدريسية منها الفيلم والصورة وافلام الكرتون والبحث وزيارة المواقع التاريخية.
هنا يجب إعادة اطلاق يد الجمعيات العلمية فى مصر لتلعب أدواراً إيجابية فى مجالاتها، كذلك يجب نقل المراكز الثقافية خارج مصر لوزارة الثقافة مع اقامة هيئة تنسق عملها على غرار المجلس الثقافى البريطانى.
إن إعادة بناء صورة مصر لتكون مصر فى المستقبل التى ننشرها أمر يحتاج لصفحات، ولكن ما أثرته فى السطور السابقة مجرد أفكار للنقاش العام، فلاشك أن إعادة بناء صورة مصر المعاصرة فى حاجة لنقاش جاد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة