قالت والضحك يعتصر قلبها ولا تكاد تتمالك نفسها : لم يكد القاضى يرانى أدخل قاعة الجلسة حتى عاد إلى الخلف فى مقعده مبتسما ثم أشار إلىّ بالاقتراب . فلما اقتربت من مجلسه ، قال ضاحكا أنت تتردين على هذه المحكمة مثلما أتردد أنا شخصيا يا مدام ، بحيث أصبحت أنتظرك وأتوقعك . فضحكت مبررة كثرة ترددى على المحاكم بسوء الحظ واعتلال الطالع وميلة البخت الذى لا أعرف له مكانا ولا عنوانا . فراح القاضى يضحك ، حتى خيل إلى أن عينيه قد أغرورقت بالدموع دون أن ينبس بكلمة . ثم استأنفت حديثها بهدوء : ماذا أفعل فى حظى ؟ نعم تزوجت ثلاثة مرات فى ثلاثة سنوات وانتهت جميعها بالمشاكل والخلافات وبنت وحيدة ، وما زلت فى السابعة والعشرين من العمر . هل هذا غريب الآن فى عصرنا الغريب ؟ لا أظن أبدا . ثم ماذا أفعل أنا ؟ الجميع يقولون لى أننى حلوة وجميلة وأن لى أن أتزوج مرة أخرى . بل على أن أتزوج قريبا ، إذ ما معنى الانتظار ؟! وراحت الفاتنة الصغيرة تصفر لنفسها إعجابا بخصلات شعرها الجميل التى تداعبها النسمات وتحية لجمسها الأنثوى العاصى للتجاهل والنكران فى عيون الناظرين .
لم تمض أسابيع حتى كانت الفاتنة فى خضم علاقة جديدة حامية . فهى ليست فاتنة وحسب ، ولكنها سيدة عاملة فى قطاع من القطاعات الهامة التى يكاد يحتكر العمل فيها الرجال فقط ، وهى محاطة دائما بالنظرات والتعليقات اللطيفة من هنا ومن هناك . وهى محل اقتراب من الشاب ومن الكبير الراغبين فى التعرف ، والراغبين فى الزواج وأصحاب الفضول وغيرهم . فإذا نظرت إليهم من زاوية الفاتنة فلربما رأيتهم قائمة انتظار طويلة قد تدعوك إلى الرثاء أو إلى الضحك . أما العلاقة الرابعة المشتعلة فكانت مع مدير شاب فى نهاية الثلاثينيات من عمره ويعمل لدى إحدى الشركات الكبرى . وقد رأى الفاتنة ورأته أثناء ترددها على الشركة لمعاملات ما ، وراح يتقرب إليها بنظرات طويلة وكلمات لطيفة وأرقام تعبر عن دخل كبير متزايد ومغر للسامعين . فلما وضعت حرب الزيجة الثالثة أوزارها وأطفأت نارها داخل إحدى المحاكم وأحد البنوك ، أمضت الفاتنة أياما وليال طويلة تفحص فيها قائمة المعجبين المتلهفين على قربها وتفاضل بينهم واحدا واحدا من كل ناحية وصوب حتى أشارت ظنونها إلى ذلك الشاب .
طار الشاب فرحا فور علمه بقبول الفاتنة لوده وغرامه دون غيره من المزاحمين الذين قد يفوقونه فى امكاناتهم وثرواتهم . وكانت فرحته فى عينيه ظاهرة ، فهو يمنى نفسه بجمال الفاتنة ومالها أيضا . أما الفاتنة فكانت لها شروط فى مقدمتها شقة تمليك تكتب باسمها فى القاهرة ، ثم شبكة كريمة ، ثم مؤخر رصين ، ثم مصروف رخيم ، ثم سيارة وسائق نظيم . ولم يطل تفكير المغرم الودود فى هذه الطلبات ، وسرعان ما وافق وشرع فى تنفيذ طلبات الفاتنة العنود طلبا طلبا حتى أتمها جميعا ، ووضعت العروس يدها على ما أرادت فى يسر وحبور ليزداد رصيدها بمئات من الآلاف التى قاربت على المليون مثلما حدث من قبل مع سابقيه . وتمت الزيجة فى احتفال عائلى صغير لينتهى الى عرس سعيد لعدة أيام فى أحد الفنادق قبل أن يطير الزوج الى عمله فى مدينة أخرى . ولما كانت تعلم بسفره مسبقا ، فقد انتهزت كل فرصة خلال الأيام التى رأت زوجها فيها لتعصر رأسه وقلبه بالأسئلة وتحاول التسلل الى خبايا عقله ونواياه فى كل شىء ، فهكذا علمتها تجاربها السابقة فى الزواج . فالزوج حرب والحرب خدعة ومكر وكر وفر وغنيمة كرب . وقد كان الزوج المغرم حريصا فلم يثرثر كثيرا ، واحتفظ بأوراقه مزمومة محصورة ، فاغتاظت الزوجة الفاتنة من حرصه وكتمانه . وفور عودة الزوج الى بيت الزوجية من سفريته سعت الى هاتفه حتى أتيحت لها الفرصة فجاست خلال خصوصياته وبياناته حتى عثرت على ما لا تحب ولا ترضى من صور عارية لبنات أخريات ، وحوارات ومحادثات حارة مع أخرى حرصت على ارسال صورها العارية يوميا الى حبيبها المتزوج . وبقية الطريق كانت تحفظه الفاتنة عن ظهر قلب حتى تحصيل آخر المستحقات . فواجهت الزوج بما عثرت عليه وثارت فى وجهه وماجت وأظهرت له من صنوف الغلظة ما أظهرت وأدبت الرجل تأديبا حتى سكت وتبلدت ملامحه كملامح الموتى ، ولم ينبس بكلمة وكأنه يقول كما قال الرئيس التونسى لشعبه الثائر قبل الرحيل : فهمتكم . وخرج الرجل الى عمله وعاد ، وقد صفت الأجواء ، أو هكذا بدت . وفى الصباح ارتدى الزوج ملابسه وخرج الى الصالون حيث جلست الفاتنة التى طاردها فيما مضى وألقى عليها يمين الطلاق الذى توقعته الفاتنة طبعا ما بين السعادة بالغنيمة والحزن بالطلقة الرابعة الأليمة . فالطلاق - كفكرة مجردة - هو شىء محزن مثل الموت وأخباره .
سرعان ما لملمت الفاتنة شتات نفسها ، وراحت فى اليوم التالى تراجع قائمة المعجبين الطويلة وامكانات كل منهم وحسناته وسيئاته ، بينما يطارد محاميها طليقها الفريسة كالذئب فى محل عمله وفى كل مكان حتى يسدد كامل الالتزامات والمصاريف والمستحقات ، لتصبح الفاتنة أغنى . ولم يؤلمها فراق الرجل أكثر من فراق سيارته الجميلة ذى السائق الخاص . فاذا كان الزواج مشروعا ، وكان تكراره لمرات كثيرة مقبولا وموصوفا ولا غبار عليه ، واذا حق للعروس وأهلها ووكيلها أن يحددوا قيمة شبكة بلا حدود وقيمة قائمة أثاث بلا حدود وقيمة مؤخر بلا حدود ، وحق للعروس وأهلها أن يفرضوا على الزوج الاتاوات ، مثل شراء شقة باسمها المصون الميمون ، فلماذا لا تخضع هذه الأموال الكثيرة للضريبة ؟ فالوطن بحاجة الى دخل محمود ، ولعلها تكون وسيلة زاجرة للمغالين فى عقد شرع للحياة ولاعمار الكون والأوطان وليس للتجارة ، ولعل تلك الأموال تصبح وعاء ضريبيا سعيدا ، ولو كانت السعادة فى جانب الحكومة . حفظ الله مصر ورئيسها ووفقه وقادتها إلى الخير .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة