هل أحرق العرب مكتبة الإسكندرية الشهيرة بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وبأمر من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه؟
هذا السؤال ظل محل جدل طويل منذ الرواية الكاذبة التى تقول: «اشتهر رجل بين المسلمين اسمه «حنا الأجرومى»، وكان من أهل الإسكندرية، وظاهر من وصفه أنه كان من قساوسة القبط، ولكنه أخرج من عمله إذ نسب إليه زيغ فى عقيدته، وأدرك ذلك الرجل فتح العرب للإسكندرية واتصل بعمرو، فلقى عنده حظوة لما توسم فيه من الذكاء بصفاء ذهنه وقوة عقله، وعجب مما وجد عنده من غزارة العلم، فلما أنس الرجل من عمرو ذلك الإقبال قال له يوما: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئا مما تنتفع به، بل شيئا لا نفع له عندك وهو عندنا نافع».
قال له عمرو: «وماذا تعنى بقولك»، فقال: «أعنى بقولى ما فى خزائن الروم من كتب الحكمة»، فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لى أن أقتطع فيه رأيا دون إذن من الخليفة»، ثم أرسل كتابا إلى عمر يسأله فى الأمر فأجابه قائلا: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء فى كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه وأحرقها»، فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوزعت على حمامات للإسكندرية لتوقد فيها، فمازالوا يوقدون بها ستة أشهر»، «فتح العرب لمصر»، تأليف: «ألفرد ج. بتلر»، ترجمة: «محمد فريد أبوحديد» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة».
هذه الرواية المزعومة كتبها «أبوالفرج» فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر، ويفندها مؤلف «فتح العرب»، قائلًا: «لم يذكر أبوالفرج المورد، الذى نقل عنه قصته، ثم نقله عنه أبوالفداء فى أوائل القرن الرابع عشر، ثم المقريزى بعد ذلك»، وبعد مناقشة مستفيضة لهذه الراوية يصل «بتلر» إلى أنها كاذبة مستندا إلى سبعة أسباب أبرزها، أن القصة لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت دخول العرب مصر، وأن الرجل «حنا الأجرومى»، الذى تذكر القصة أنه كان أكبر عامل فيها مات قبل دخول العرب مصر بزمن طويل».
هكذا أقدم إنجليزى متخصص فى الآثار الإسلامية بتفنيد هذا الاتهام، ووضع حججه القوية فى كتابه «فتح العرب لمصر» بجامعة أكسفورد عام 1902، وترجم إلى العربية عام 1933، وفقا للدكتور أحمد زكريا الشلق فى مقدمته للترجمة الصادرة عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة» ضمن مشروع الأعمال الكاملة لـ«محمد فريد أبوحديد».
تجدد الحديث يوم 18 مارس «مثل هذا اليوم» 1923 حول نفس القضية أمام أكاديمية الآثار والآداب فى باريس، ووفقًا لكتاب «من كواليس التاريخ»، تأليف سمير شيخانى عن «دار الجبل - بيروت»: «تلا المستشرق الفرنسى «كازانوفا» أمامها رسالة دحض فيها ما روج حول حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، ويذكر «شيخانى» أن الدكتور يعقوب صروف قال فى عدد أكتوبر من المقتطف سنة 1893: «إن ما قيل من أن الإمام عمر أمر بإتلاف هذه المكتبة راوية مطعون فيها، وعندنا أنها كاذبة»، وفى سنة 1928، وفى عدد مجلة «القدم» يقول مؤرخ المكتبات الشهير «بوشنل»: «هذا الحكم الذى حكم به الدكتور صروف كان يجب أن يدرك عقلا، لأن دينا يجرى على لسان رسوله الكريم: «أطلبوا العلم ولو بالصين» لا يمكن أن يستبيح إتلاف ثمرات الحكمة والعلم المجتمعة فى مخلفات العقل البشرى».
ومن حقائق التاريخ، التى تحدثت عنها رسالة «كازانوفا» و«بتلر»، أن النار شبت غير مرة فى المكتبة قبل القرن الثالث الميلادى، وهناك خلاف على تقدير عدد الكتب أو المجلدات، التى كانت فيها، وراوحت الأرقام بين مائة ألف كتاب وسبعمائة ألف، وسبب الاختلاف أن بعض الذين يقدرون يحسبون لفات المؤلف الواحد كتبا مختلفة، ومنهم من يحسبها كتابا واحدا فقط، كما أن المكتبة لم تكن واحدة، بل ثلاث مكتبات، الأولى «مكتبة الموزيوم»، أى ندوة العلماء والأدباء، واحترق منها 400 ألف مجلد لما حاصر يوليوس قيصر الإسكندرية، والثانية مكتبة «السيرابيوم» واحترق معظمها فى عهد «ثيودوسيوس» عام 391، والثالثة مكتبة «برغاموس»، وأضيفت إلى الثانية واحترقت معها، وما بقى من محتوياتها تلف على مر السنين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة