هو يذكرك برائعتى تشالز ديكينز "اوليڤر تويست" وهيكتور مالو "بدون أسرة"، اللتين قرأناهما صغاراً.. قصته تصلح لعمل درامى تروى ترجيديا حياة طفل من كثيرين مثله بلا أسرة يفترشون العراء على أرصفة المحروسة ، تحكى عن أمه التى رآها مرتين او ثلاث فى حياته قبل أن ترحل عن الدنيا.. تحكى كيف هرب من جحيم زوجة أبيه فى غيبة من اهتمام الوالد وإهماله، ليجد الصبى نفسه وحيداً بلا شىء! يتمنى لو ان له أماً تضمه إلى صدرها ، لا يفتقد صحبة أحد فى الدنيا إلاها! بقدر ما يوجع قلبك بقدر ما تحبه و تعجب به، هو نموذجٌ رائعٌ لا تفوتك مشاهدته ، قرة عين هو هذا الصبى الذكى الموهوب طيب القلب حنون ، فيه شيم يفتقدتها أبناء البيوتات العريقة ! صنعت منه الحياة رجلاً قبل الأوان !
يبحث عن رزقٍ شريف عن فرصة عمل عن أربع حيطان تضمه، عن أسرة تحنو عليه و لو من الكلاب الضالة ، تحبه ، تحرسه ، تدافع عنه و تحميه ، تفتقده اذا غاب و تسهر عليه اذا مرض تعطيه ما حرمه البشر من عاطفة انسانية ، تعوضه حنان الأم و الأب و الإخوة الذي سلبته اياهم الحياة بصلفها و قسوتها ! هو طاقة من الحب و العطف و العطاء حين فقد الحنان بحث عمن يعطيهم الحنان فعلى بساطة حاله لم ينسَ اصدقاءه الكلاب جعل لهم فى رزقه البسيط نصيباً يشترى لهم بعضاً من طعامٍ ذكاء عاطفى حسى (EQ) منقطع النظير ! منعته عِزَّةُ نفسه التسول و حتى بيع المناديل وتنظيف السيارات والأحذية يفعلها خجلان، فهو لا يعتبرها أعمالاً جادة ؛ بينما لا يستحى من ان يمتهن ادنى منها الكبار ؛ الا انه المضطر لا خيار عنده ، لم يمنعه افتراش الأرض و التحاف السماء طموحه هو يرسم ، يستمتع بهوايته و ينمى موهبته يحلم لنفسه بغدٍ و عملٍ افضل يحلم ان يكون رساماً او نحاتاً ، على ضآلة جسمه و حرمانه فرصة التعليم هو اكبر من الكبار بعقله و قلبه بقدر ما اوجع قلبى بقدر ما بعث فى الأمل والتفاؤل بأن مازال المصرى يحمل جينات الأجداد جينات الجِدية و الأخلاق و الكرامة الخير و الحب و العطاء، ويثبت أن الحفيد لا زالت تجرى فى عروقه دماء الانسان طيب الأعراق سوى صالح لا تفسده الظروف والصروف ، تشد عوده النوائب تصنع منه محارباً عنيداً مقاوماً مصرا على الإستمرار و البقاء و النجاح ، و رغم قسوة الحياة لا يفرط فى قيم الحب و الخير ، و لكن لا يمنعنى فخرى بالصبى من الحزن و الأسف على عباد الرحمن الراقصين مع الكلاب الذين يملأون شوارع المحروسة لا ام و لا اب و لا مأوى لا حاضر و لا مستقبل فى غفلةٍ من الجموع !!
ذكرنتى هذه القصة ببرنامج كنت قد شاهدته على قناة TV5 الفرنسية ، مقارنة تعقد نفسها بين نهج دولة عظمى تعرف معنى كلمة تنمية وطاقة بشرية وتسعى للاستثمار فيها ، يتحدث البرنامج عن أطفال من السنغال فى نفس عمر الصبى المصرى قاطن الأرصفة صاحب الكلاب ؛ ثلاثة عشر عاما؛ تبنتهم فرنسا لإعدادهم ليكونوا لاعبى كرة قدم فى الفريق القومى الفرنسى كانت الحلقة تدور على طفل مسلم اسمه "علي" أُخِذ من أهله فيمن اخذ من الأطفال السنغاليين ؛ بموافقة أهليهم طبعاً ؛ اودعوهم معهداً داخلياً فى مدينة ليل الفرنسية حيث يتلقون التعليم الفرنسى العادى بالإضافة الى التدريب على لعبة كرة القدم التى تعتبر كأساس، إقامة شاملة و تعليم ، كل شئ يتلقونه بالمجان.
لا أستطيع وصف الفارق المهول بين مكان إقامة الطفل "علي" فى السنغال و المكان الذى اخذ اليه فى فرنسا و الفرصة الكبرى التى حظى بها هو و كل من فى المعهد فكلهم دون استثناء من الزنوج الأفارقة تلاميذ وهيئة تدريس، لم يكن الولد يعرف القراءة و لا الكتابة بالفرنسية حين احضروه الا التحدث بفرنسية ركيكة كل ما تعلم فى بلده هو بعض آيات القرآن وقليل من القراءةً و الكتابةً بالعربية ، ويظهر فى الفيلم يوميات الولد بين التعليم و التدريب و الرعاية الصحية و بعض الترفيه كما يظهر مداومته هو و زملاؤه على أداء الصلوات، لم يحاول احدٌ تنصيرهم او تبديل دينهم او التأثير عليهم كما نحب ان نشيع ، تفوق الولد و كان ترتيبه الرابع على " البروفيه الفرنسية " و هى شهادة تعادل الإعدادية أى كان موفقا فى دراسته العادية التى اهتموا بها أيضا ، و رغم كل هذا النجاح و هذه الفرصة العظيمة التى أسعده الحظ بها دون غيره بدا الولد حزينا ، تكلم بمنتهى المرارة على فراقه لأمه كان متأثراً أنه لا يراها فى العام الا مرة واحدة ! يومها أبكانى هذا الطفل السنجالى لانه فارق اهله رغم عظيم ما يفيد و عظيم ما يتلقى من رعاية و فرصة و رغم انه على وعدٍ بعود !! و لكن ادمى قلبى الطفل المصرى الراقص مع الكلاب و امثاله الذين بلا عدد فى شوارع المحروسة لحرمانهم الأمل و الفرصة ! "
مصر العزيزة كما قال فيك شوقى " فيالك هرةً اكلت بنيها و ما ولدوا و تنتظر الجنينا" أطفالك يملأون الشوارع و قد فصلوا عن أهليهم الى الأبد لا يوم و لا غد لا مأكل ولا ملبس و لا مأوى ! مصر لا تدرك قيمة هذه الثروة التى يتلقفها العالم المتحضر و يعرف لها قدرها و كنت أظن ان بعد ثورتين يجب ان يكون هؤلاء أولى أولوياتها ، فهلا حذت مصر وأهلها الكرام و نواديها حذو فرنسا و افادت من هذا النشء بدلا من إهدار هذه الثروة و التى ستتحول حتما الى قنابل موقوتة تهدد المجتمع ، إننا جميعا مسؤولون عن هؤلاء الصبية و الفتايات فحنانيك يا مصر انت الام و لا ينبغى لك ان تكونى كالأب العاق يلقى ببنيه فى الطرقات فكفى بالمرء إثماً ان يضيع من يعول ....
* استاذ بطب قصر العيني.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة