قبل أعوام قليلة ملأت تركيا العالم ضجيجاً، وحاولت تقديم نفسها باعتبارها النموذج الذى يجب أن تحتذى به دول المنطقة، وروج لهذا النموذج بعض الأنظمة والحكومات والتيارات السياسية فى المنطقة، وكذلك اتخذته عواصم غربية على رأسها واشنطن كـ«موديل»، تغرى به دول الشرق الأوسط، خاصة مصر، فتركيا تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، الذى يتزعمه رجب طيب أردوغان، كان يمثل دولة الإسلام المعتدل، الذى لا يعادى إسرائيل بل يتواصل معها سياسياً واقتصادياً وعسكريا، كما أن خطوط التواصل بينه وبين أوروبا متصلة، والأهم أنه يدور فى الدائرة الأمريكية، ولا يخرج عنها إلا نادراً.
كان الأكثر اقتناعا بنموذج «تركيا أردوغان»، هو الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، وكثيرون من أعضاء إدارته، فسمحوا لأردوغان بأن يلعب فى الشرق الأوسط كيفما شاء، يقدم الدعم السياسى والمالى والإعلامى أيضاً لجماعة الإخوان فى مصر وتونس واليمن ومنطقة الخليج، وفى المقابل تعلن هذه الجماعة الولاء التام لأنقرة، فتحولت العاصمة التركية إلى قبلة المتأسلمين سياسياً، إلى درجة أن أردوغان شعر أن الدنيا كلها تدنو منه، فتخيل نفسه السلطان العثمانى الجديد، وخليفة المسلمين الذى يأتمر الجميع بما يقوله، حتى وإن كان على خطأ.
ظلت أحلام الخلافة تراود أردوغان حتى بعدما أسقط المصريون نظام الإخوان، فى 30 يونيو 2013، ظن أن الإخوان سيعودون إلى الحكم مرة أخرى ليستكمل بناء عناصر الخلافة التى يحلم بها، لكن العقد بدأ ينفرط، فبعد مصر جاء الدور على تونس، بعدما توترت العلاقة بين حركة النهضة الإخوانية وشركائها فى الحكم، وخسرت النهضة الأغلبية البرلمانية، وبعدها انتفض الليبيون على حكم الإخوان، ثم انقلبت المعادلة السياسية والعسكرية فى سوريا، وخسرت المعارضة المدعومة من تركيا مكانتها.
خسر أردوغان كل حلفائه أو بمعنى أدق «رجاله» فى المنطقة، وزاد على ذلك أنه دخل فى توتر سياسى مع روسيا كلفه الكثير اقتصادياً وسياسياً، فلجأ إلى إسرائيل مرة أخرى، وأعاد العلاقة معها إلى العلن بعدما كانت تسير فى الخفاء لست سنوات بعد حادث الاعتداء على سفينة مرمرة التى كانت تقل على متنها نشطاء أتراكا كانوا متجهين لقطاع غزة، وأعلنت أنقرة عن عودة علاقتها مع تل أبيب إلى طبيعتها، لكن ظل التوتر قائما بين أنقرة وموسكو إلى أن خضع أردوغان مرة أخرى لبوتين واعتذر رسمياً عن حادث إسقاط الطائرة العسكرية الروسية داخل الأجواء السورية، بل إنه فى لحظة الخضوع تنازل عن حلفائه فى الخليج، وتنازل عن الورقة السورية، وقرر منح الحل بالكامل لروسيا.. فعل أردوغان ذلك لأنه شعر بأن الخناق يضيق حول رقبته.
بعد الخنوع الأردوغانى لإسرائيل وروسيا، ظن الكثيرون أن تركيا تعود إلى الاعتدال مرة أخرى، لكن ما إن هدأت الأمور، عاد أردوغان إلى سيرته الأولى، خاصة بعدما ضمن أغلبية برلمانية مكنته فى تمرير التعديلات الدستورية التى حولت النظام فى تركيا من برلمانى إلى رئاسى، بما يمنح أردوغان من صلاحيات سياسية ودستورية لم تكن مقررة له، والأكثر من ذلك أن هذه التعديلات تتيح لأردوغان الذى ستنتهى ولايته فى 2019، التمتع بإمكانية الترشح على منصب رئيس تركيا لولايتين أخريين، والبقاء فى السلطة حتى 2029، كل ذلك أعاد أردوغان إلى سيرته الأولى، وهى الحلم بأن يكون الخليفة، لكن هذه المرة ليس على المنطقة العربية التى انتفضت ضده، وإنما على جيرانه الأوروبيين.
المتتبع لمسار العلاقات التركية الأوروبية سيكتشف أن أردوغان على مدار الشهر الماضى يتصرف بمنطق أنه الحاكم لأوروبا، فافتعل الأزمات مع ألمانيا وهولندا وبلغاريا، وأخيراً سويسرا التى فتحت منذ أيام تحقيقاً حول معلومات عن عمليات تجسس تقوم بها مؤسسات تابعة لحزب أردوغان للتجسس، من بينها المؤسسة التركية - الإسلامية السويسرية، واتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين.
الأزمات بدأت حينما تعامل أردوغان بمنطق الوصى على الدول الأوروبية، فسمح لنفسه ولوزرائه بالتدخل فى شؤون أوروبا مستخدماً الجاليات التركية فى هذه البلدان، وهو ما ردت عليه هذه الدول رداً قاسياً، بإلغاء مشاركة وزراء أتراك فى تجمعات تركية داخل هذه البلدان، بل إن هولندا منعت وزيرة تركية من دخول أراضيها. فى نهاية المطاف يمكن القول إن أردوغان وصل إلى مرحلة من الجنون لا يمكن القبول بها ممن كانوا يدعونه فى الماضى، ورغم استبعاد فكرة حدوث عملية تغيير قوية بتركيا فى الوقت الراهن، فإن المواقف المجنونة من جانب أردوغان ستؤثر على وضعية تركيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والسبب بالتأكيد واضح، وهو أنهم سلموا أنفسهم لمجنون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة