كراس صغير يدسه الموظف وسط كتب العام الدراسى الجديد، يدور على أكوام الكتب المتراصة فى أرجاء غرفته الصغيرة، يوزع على كل تلميذ نصيبه المعلوم، نحمل كتبنا الجديدة لا نخفى فرحتنا بها، نقلب صفحاتها بأطراف أصابعنا محاذرين، نخشى أن نكرمش أوراقها، مازلنا نشفق عليها مما ستراه معنا من إهمال وازدراء مع مرور الأيام، نطالع صورها بإعجاب وتستميل قلوبنا الألوان الباهتة نقنع بها فهى أفضل من مأساوية اللون الواحد، فيتحدد مصير علاقتنا بالمادة بمستوى بهاء الكتاب وأناقة صوره، لا نلقى بالاً لذلك الكراس الصغير، مما لا يحمل صورة واحدة أو لونا يُؤنس وحدة سواد خطوطه القاتمة، جملة وحيدة تقف أعلى الصفحة كملكة متوجة تفرش ظلالها على بقية الصفحة نقاط متراصة بنظام يشبه طابور مدرستنا الصباحى، سطور خاوية تنتظر من يملؤها بجمل -كالأميرات الصغيرات- يحاكين جمال الجُملة الأم، حكم وعبارات لا نفهم أغلبها نكررها فقط بخط نحاول جاهدين أن يكون جميلا، فنتبارى متباهين بخطوطنا المشعثة، منكوشة الحروف، مبعثرة النقاط، خطوط معوجة لاهثة لا تُدرك طريقها، تصعد أحيانا فتصطدم بالسطر السابق أو تهبط فتهوى فى بئر من السخرية اللاذعة والمكايدة الطفولية فيصرخ أحدنا موبخا: السطر ده رايح يشرب من البحر وراجع تانى، ثم ننفجر ضاحكين على صاحب هذا الخط البائس.
بعض الكلمات ظلت فى الذاكرة، وأغلبهن انمحى.. "الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"
لا أعرف هل بقيت تلك الحكمة عالقة فى ذاكرتى حاضرة دائما لأنى أخشى المرض، صحيح أن قائمة مخاوفى طويلة، ولكن وحده المرض يقبع متربعا على رأس القائمة.
فى البداية انشغلت بمرضها لأنها زوجة أستاذى أول من استقبلنى فى عالم الصحافة بعد التخرج، ثم جذبتنى تدويناتها عن معاناتها مع المرض، بحثت عن ذلك المرض النادر، أذهلتنى شراسته، وما يسببه من ارتباك للجسم، فيفقد جهاز المناعة قدرته على التمييز بين أعضاء الجسم وبين الأجسام الدخيلة عليه، الغريبة عنه، وبدلا من مهاجمة أعداء الجسم يهاجم الجسم ذاته.
أيقنت أن المرض النادر أصاب أيضا شخصية نادرة، استطاعت أن تحول عذابها مع المرض إلى نصوص عذبة على صفحتها الشخصية بالفيس بوك، تأخذها روح التحدى كثيرا، وينتباها الألم أحيانا، فتغزل من ألمها مشاعرا صادقة، تتبادل مع المحيطين بها الأدوار، بينما يحرصون هم على بث الأمل فى نفسها تغدق هى عليهم فيضا من السكينة والرضا وابتسامة لا تفارق وجهها حتى على سرير العناية المركزة، حتى وإن أنهكهها الأمل أحيانا كما تقول لكن تظل الشاعرة ناهد السيد صامدة فى حربها الشرسة، تخوض معركة غير متكافئة، يدرك فيها العدو تفاصيل ساحة القتال- جسد ناهد- بينما لا تعرف هى نقطة هجوم ذئبتها الصغيرة القادمة.
ناهد السيد الكاتبة الصحفية والشاعرة المهتمة بالمرأة والمعبرة دومًا عن مشاعرها الخاصة، تواجه بقوة مرض الذئبة الحمراء التى استوطنت جسدها منذ سنوات ولم يكتشفها الأطباء إلا بعد سنوات من التشخيص الخاطئ لحالتها، رغم شراسة المرض وكونه واحدًا من الأمراض المزمنة النادرة ورغم ما فعلته الذئبة من تخريب فى جسدها، إلا أنها تتحدث عنها بود وكأنها ألفت الذئبة بعد طول العشرة بينهم، فتقول عنها: الذئبة جعلتني أتأكد أننى مختلفة، فهي تختار الأقوياء، تريد الند بالند، لا تريد من ينهزم بسهولة، وأنا لن أجعلها تهزمنى.
تدوينات ناهد على صفحتها تحد للمرض حتى وإن أبدت بعض تدويناتها حملا كاذبا باليأس، فالأمل ومقاومة المرض لا ينفيان الألم والمعاناة والحزن، والكتابة فى حد ذاتها مقاومة للمرض، تحدى لتلك الذئبة، تعريف بخطرها، كتابات ناهد دفعت الذئبة رغما عنها إلى الأضواء، فأصبحت محل تشخيص الأطباء أو بالأحرى احتمالا واردا على قوائم تشخيصهم لعل ذلك يساهم فى اكتشاف المرض مبكرا فيرحم مريض من التشخيص الخاطئ الذى عانت منه ناهد لسنوات، وكان سببا فى تأخر بداية علاجها من المرض الحقيقى.
حديثك العذب عن عذاباتك مع الذئبة ليس مقاومة شخصية لمرضك ولكنه مثالا يُحتذى، لا فى المرض فقط ولكن فى مقاومة المتاعب المحيطة بنا، فى مشاكسة الواقع المرهق، حتى فى صرختك الحزينة عندما كتبتِ:
اكتفيت..
لم أتخيل يوما أن أصحو بلاهدف أن يتبخر الطموح أن استسلم لملل مرور الوقت بلا جدول أعمال ولا انتظار لأى جديد قد يحدث.فقد كانت متعتى الوحيدة فى انشغالى وكثرة مسئولياتى وتشتت يومى عن رضا خاطر بين عده مهام لا تمنحنى فرصة لالتقاط أنفاسي ..الآن اكتفيت بهذا القدر من الحياة ..اكتفيت بهذه المساحة التى اشغلها على الأرض مكان ما تطأ قدماى ..اكتفيت أن أصبح مجرد خيال مآته لأولادى يشعرون بالأمان فى وجودى حتى إن لم أقو على رعايتهم كما ينبغى ..فقد اكتفوا منى بآذان تصغى إليهم لم ينتظروا رد فعل آخر ..أما أنا فاكتفيت بابتسامة بلهاء تشير أنى مصغية وهزة رأس تعلن تجاوبى ..لا أملك غيرهما ..اكتفيت أن أحلم لأولادى .. أتمنى لزوجى ..أدعو لأصحابى وأقاربى ..اكتفيت بعد الساعات ليبدأ يوم جديد لا يفرق عن سابقه ولا يشبه ما يليه.. اكتفيت بالخرف والنسيان والهذيان عن طيب خاطر.. اكتفيت بالنوم والصلاة ..اكتفيت بالله ..وكفى بالله حسيبًا.
لم أعتبر ذلك يأسا بل حزنا مشروعا من مرض تبدلت معه الحياة، ولكن ما زال الأمل معقودا، حتى وإن أصاب النفس بعض من الارتباك الذى أصاب المناعة، لن أصدق أن يتسرب اليأس إلى نفس تشعل معاركها الصحفية من فوق سرير المرض، تحارب المرض بشراسة صحفية تنبش فى المسكوت عنه من فساد، ما زالت تحمل كثيرًا من الأحلام مع أبنائها وزوجها، أحلام عبرت عنها بالشعر بعد معرفة حقيقة مرضها فى قصيدة بعنوان.. كنت استنى شويه:
ده أنا بنت وحيدة لأمى
والست مستنية تموت
وأنا اللى أغسلها
...
استنى شوية
بنتى ف الثانوية العامة
والبنت التانية لسه بتحضن الدبدوب
...
استنى شوية
ابني ما اتعلمش لسه يربط الكوتشى
يستحمل غيابى لما أمشى
وأنا راجعه بعد الضهر
بشنطة حاجات حلوة
وضحكة وحضن
...
استنى شوية
لسه صورة جوازى ما اتربتش
لسه العشرة بنا ما اتعورتش
لسه بحبه
عايزة أعجز معاه
وقلبه ما ينكسرش
ولأنى لا أملك إلا الدعاء.. رجاء أدعوا لناهد بالشفاء...
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
المرض
ربنا يشفى كل مريض ويخلصنا من كل الذئاب