«منى»: اكتشفت المرض بعد زواجى بشهر واحد.. فكانت النتيجة «إنتى مريضة ماتلزمنيش»
تنهى جلسة الإشعاع الأولى، تنهض خائرة القوى، يساعدها زوجها على الوقوف، يمسك بيدها، وبيده الأخرى يربت على كتفها بشفقة تمزقها، تتجنب التقاء الأعين، فهى من تعلم جيدًا أن ما يحمله لها من نظرات لن يتجاوز حدود الدعم لزوجة أخلصت لبيتها 25 عامًا، تستحق منه التقدير، ويستحق منها الصمت عن تحول مشاعره من الشوق للشفقة، تعود لمنزلها حاملة ما بداخلها من ألم نفسى يفوق ما تشعر به بعد جلسات الإشعاع، تستلقى على فراشها صامتة، تمر بيديها على جسدها الذى لم تعد تعرفه بعد استئصال ثديها الأيسر، يمر بعينيه على وجهها فى حنان، يخرج من الغرفة صامتًا، تنفجر هى فى البكاء على ما فقدته من أنوثتها جعل زوجها يختار السكن فى غرفة مجاورة، ينهض للاطمئنان عليها مسرعًا، لا ينام بجوارها، ولا يحدثها عن أمور القلب، يعطيها الأدوية فى موعدها، ولكنه لا يقوى على إعطائها ما هو أكثر من اهتمام زوج لم يعد متزوجًا، أما هى فاختارت الامتنان، واكتفت بالصبر، مرددة لنفسها قبل كل نوم «كفاية إنه ما سابنيش لحد دلوقتى».
مشاعر «سلوى» التى اختارت لنفسها اسمًا وهميًا طمأنها للبوح، هى ما كتمته بداخلها مع آلام المرض، وآثاره على جسدها وشعرها، وقلبها الذى لم يعد كالسابق، هى مريضة أخرى سجلت اسمها فى دفاتر المؤسسة المصرية لمكافحة سرطان الثدى، لها قصة يعرفها الجميع، كسيدة أصيبت بالمرض، وبدأت فى مواجهته بالعلاج وجلسات الفضفضة التى تنظمها المؤسسة، أما قصتها الأخرى التى اختارت لسردها اسمًا مستعارًا، فهى حكايتها مع «الهجر»، قصة تعرفها مريضات سرطان الثدى جيدًا، يعرفن الزاوية الأكثر إيلامًا بعد اكتشاف المرض الذى يعلن عن نهاية علاقات الزواج، وهجر الزوج لامرأة ستفارقها أنوثتها بعد أيام قليلة من العلاج، بعضهن من يتوقعن البقاء، فتطيح بأحلامهن حقائب الرحيل، وأوراق الطلاق، وتغيير أرقام الهاتف، وبعضهن الآخر من ترضى ببقاء باهت يشبه المرض، وشفقة واضحة، وغرف منفصلة، وأسرة خالية فى مقابل البقاء، وهو المصير الذى وافقت عليه «سلوى» موافقة المضطر الذى لا يملك خيارًا آخر، إما «هجر الفراش» أو نهاية الزواج.
دون مناقشات معلنة اتفقت «سلوى» مع زوجها ضمنيًا بنهاية فصول العلاقات الحميمة بلا رجعة، أعلن هو عن رغبته برحيله للغرفة المجاورة ليلة اكتشاف مرضها، وأعلنت هى قبولها بالصمت الذى قطعته وصلات البوح لـ«اليوم السابع» عن مشاعرها تجاه الهجر.. «سلوى» التى رفضت الإفصاح عن اسمها الحقيقى، وطلبت بإصرار عدم التقاط الصور قالت: «الحاجات دى ما بتتقالش، أقوله إزاى إنى مجروحة إنه مابينامش جنبى»، تتحدث على الأمر وكأنه أبعد ما يكون عن حقوقها فى زواج دام لسنوات طويلة، أثمر صبية حسناء فى عامها العشرين، و«عِشرة» طويلة من الحب والاحترام، على حد تعبيرها.
تكمل «سلوى» البوح قائلة: «أنا متجوزة من 21 سنة، واخدين بعض عن حب، لما اكتشفت المرض، اتعاطف معايا أنا مش هنكر، وبعد استئصال الثدى، بقى بينام فى أوضة تانية».
محاولة واحدة للحديث معه فى الأمر كانت نتائجها جملًا متقطعة باهتة، أخبرها عن خوفه عليها، وقال الجملة التى لم تنسها «سلوى» رغم انتهاء الأمر «أنا مش عايز أأذيكى وخايف أضرك».
تكمل «سلوى»: «من ساعة ما اكتشفت المرض مافيش أى اتصال، حاسة منه بالتعاطف، لكن إنى أحس إنى ست دى خلاص أنا نسيتها».
الوجع الذى تحكى عنه «سلوى» هو ما امتنعت تمامًا عن إظهاره أمام زوجها، هو كل ما تملك من فرصة اقتصادية للاستمرار، وهو أيضًا كل ما تملك من فرصة الحياة المستقرة مع رجل يُكنّ لها احترامًا يدفعها دومًا للامتنان، وتقول: «المرض كوم، وإحساس الست إنها فقدت أنوثتها كوم تانى، إنتى اتلغيتى كست وبقيتى شخص كان تعبان وربنا خد بإيده».
تكمل «سلوى» ما بدأته من رضا بأعذار تلتمسها لزوجها يوميًا: «كفاية إنه ماسابنيش، كفاية إنه مستحملنى، أسيبه وأروح فين»، وهكذا تمضى أيامها التى تقضيها بجانبه فى صبر، تتوقع خبر زواجه بأخرى يوميًا.
«زينب».. حكاية هجر أخرى انتهت بالفراق
ما تحمد الله عليه «سلوى»، صاحبة الحكاية السابقة، بعد أن بقى زوجها معها بشروطه، هو ما لم يكن متاحًا لـ«زينب على»، 55 عامًا، صاحبة التجربة القاسية مع المرض والهجر أيضًا. اكتشفت مرضها منذ ثمانى سنوات، كانت هى الأصعب على الإطلاق، كريح عاصفة أطاحت بحياتها المستقرة، جاءها خبر إصابتها بسرطان الثدى، لم يتوقف الأمر عند الصدمة التى تشعر بها أى امرأة أخرى عندما تعلم أنها على وشك التخلى عن أهم أجزاء أنوثتها، بل كانت الصدمة الأشد فتكًا هى هجر زوجها، وزواجه من أخرى بعد عام من المرض.
«زينب» تحدثت لـ«اليوم السابع» عن هجر الزوج بالكثير من الغضب، حتى أنها لم تمانع من البوح باسمها الحقيقى، أو أن يقرأ الآلاف قصتها التى وصفتها بالصادمة، وقالت: « عندى 3 ولاد، بشتغل موظفة فى قطاع حكومى، حياتى كانت مستقرة جدًا لحد ما اكتشفت المرض، خبيت على ولادى، ما حبيتش أقلقهم عليا، لحد ما شعرى بدأ يقع».
تتذكر تأثير تساقط شعرها على زوجها الذى لمحت فى عينيه نظرة الحيرة بين البقاء والرحيل عن امرأة لم يعد يعرفها، وتقول: «جوزى فى البداية كان واقف جنبى، وبيقولى ما تخافيش مافيش مشكلة إن شعرك يقع، ويعدها بسنة اتجوز».
سنوات طويلة من الحب سقطت أسفل قدميها عندما تأكدت من خبر زواجه من أخرى، حاولت طلب الطلاق كثيرًا، لكنه رفض، فاستمرت فى الزواج الصورى دون مشاعر باقية، فما تشعر به اختزلته بجملة واحدة قاسية: «صدمة جوازه كانت أكبر من صدمة السرطان»، لم تكن تتوقع أن يتزوج غيرها، فعلاقتهما مليئة بالحب، على حد وصفها، أما بعد انتهاء الأزمة وتعافيها تمامًا من المرض، فلم تعد مشاعرها كالسابق، وصفت العلاقة هذه المرة بـ«مش فارقة»، بعد أن تركها فى أشد لحظات حاجتها إليه.
وتكمل: «بعد ما خفيت حاول كتير يرجعلى.. لكن الشرخ اللى حصل بينا كان أكبر من إنى اوافق». لم تعد «زينب» تهتم للأمر كالسابق، فكما تجاوزت آلام السرطان، تمكنت من تجاوز آلام القلب، توقفت عن انتظاره، وتوقفت أيضًا عن الاعتماد عليه لتشعر بأنوثتها، فهى لم تفقد بعد تلك المشاعر التى تبقيها أنثى من الداخل، بعد التعافى اهتمت بمظهرها، انكفأت على العمل، وانشغلت بعلاقتها بأولادها، وبجلسات البوح المستمرة فى المؤسسة المصرية لمكافحة سرطان الثدى، استمرت فى المقاومة التى أخرجتها حية من تجربة هجر كانت الأصعب بعد المرض.
«منى».. عندما يمر المرض ويبقى «الغدر»
حكاية «منى» هى الأصعب والأقرب للدراما على الإطلاق، فهى على عكس السابقات فى مقتبل حياتها الزوجية، أو هكذا كانت وقت اكتشاف مرضها بعد زواجها بشهر واحد، بعد سنوات قضتها «رشا» فى فترة الخطوبة، تزوجت أخيرًا بعد تجهيز كل ما يجعلها هى وزوجها سعداء، قضيا وقتًا طويلًا فى التجهيز لحياة زوجية سعيدة لم تكن تعلم أنها على وشك الانهيار بالكامل بعد أيام من بدايتها.
وتحكى «منى»: «كنت عروسة جديدة، وجوزى بيشتغل فى الخليج، بعد شهر من جوازنا سافر لشغله، وأنا اكتشفت المرض بالصدفة، كنت مع واحدة صاحبتى فى المستشفى وسألت الدكتور على ألم بحس بيه، طلب منى أشعة، واكتشفت إنى مصابة بسرطان الثدى».
ليست صدمة اكتشاف المرض هى محور قصة «منى»، ولا مراحل العلاج الطويل، أو استئصال جزء من ثديها هى ما شغل بالها، بقدر ما عاشته من تفاصيل البعد المؤلمة، الأقرب لسيناريو بحبكة عبقرية. بعد اكتشافها المرض أبلغت زوجها، فقطع رحلته للوقوف بجانبها والاطمئنان، انتهت المرحلة الأولى من العلاج، استأصلت «منى» الثدى المصاب، وقضى زوجها بجانبها ثلاث ليال كانت هى الأخيرة فى عمر زواجهما القصير، سافر تاركًا لها وعود العودة وترك عمله بالخارج، وظلت هى فى انتظار وعوده حتى أدركت حقيقة ما يخفيه خلف تذاكر سفره.
وتحكى «منى»: «عمرى ما كنت أتوقع إنه بيكذب عليا، وهيروح مش هيرجع، وقتها أسرتى كلها كانوا واقفين جنبى، وخايفين على حالتى النفسية، ومنعوا عنى أى أخبار تأثر على علاجى».
لم تكتفِ أسرتها بالقلق، بل خافوا حد الرعب من افتضاح أمر هجر زوجها حتى لا يؤثر ذلك على علاجها، أعلن نواياه بالرحيل لوالدها، وقال الجملة التى تتذكر «منى» وقعها جيدًا «دى مريضة ما تلزمنيش». بقسوة استقبلتها الأسرة بدلًا من «منى» رحل الزوج بلا رجعة، وتفرغت أسرة «منى» للتمثيل بأنه مازال حريصًا عليها، يحبها ويسأل عليها يوميًا، ولكن الطبيب منع عنها التعرض لإشعاع الهاتف أو الحواسب النقالة، لم يجدوا سوى هذه الحجة لتبرير غيابه، وانقطاع هواتف الاطمئنان أو الدعم، صدقت «منى» غير مقتنعة بأنها يجب ألا تتلقى الاتصالات، لذلك لا يمكنها مهاتفته، وصدقت أيضًا تأكيدات والدتها وإخوتها أنه يتصل يوميًا ليطمئن عليها، بل وقرأت رسائله المكتوبة بخط يد أخيها تخبرها عن شوقه للقائها، ومتابعته لأخبارها دائمًا، لم تستمع لحديث قلبها عن وجود ما يدعو للقلق، واختارت أن تكمل انتظارها، وتنشغل بالخروج منتصرة على المرض.
6 أشهر قضتها «منى» فى الخدعة التى حبكتها الأسرة خوفًا على مشاعرها، حتى حان موعد اكتشاف الأمر كاملًا، وهى اللحظة التى تحكى عنها قائلة: فى إحدى جلسات الإشعاع، طلبت من الممرضة أن تمرر لى الهاتف سرًا، وبالفعل اتصلت به بعد 6 أشهر من الانقطاع، كان رده هو آخر ما توقعته، عندما جاءه صوتى، أجابنى بدهشة «إنتى بتكلمينى ليه؟!»، دفعتنى الصدمة للتساؤل، فأجابنى بقسوة أكبر «أنا متفق مع أهلك إنى هطلقك، وانتى مريضة وكدبتى عليا.. ما تلزمنيش».
غادة صلاح.. و«ساندويتش الأزواج»
بطلة لأغنية «لسه جميلة» التى نقلت بها رسالة للعالم عن الجمال الداخلى لمريضات سرطان الثدى، اختارت الخروج من تجربة المرض بسرطان الثدى بكتابين وأغنية، الكتاب الأول هو «ماما والورم» الذى كتبت فيه «غادة» ما يجب أن يعرفه الأبناء عن مشاعر والدتهم المصابة بالسرطان، أما الثانى الذى صدر فى معرض الكتاب الأخير فهو كتاب «الأنثى التى أنقذتنى»، الذى انتقلت فيه من مقعد الناجية لمقعد الحكاءة التى تسرد ما عاشته من مئات القصص لأخريات التقتهن «غادة» بعد عملها كمتطوعة بالمؤسسة المصرية لمكافحة سرطان الثدى.
جمعت القصص، وسردتها مع الاحتفاظ بالألم حبيسًا بين سطور كتابها، حتى وإن لم تضع حكايتها ضمن صفحات الكتاب، حتى عندما طلبنا منها البوح، اختارت بإصرار أن نقدمها كاتبة، ناقلة لما حدث، خبيرة بما بقى سرًا فى قلوب السيدات، وقد كان.
غادة صلاح، صاحبة التجربة الأكثر إلهامًا، والتى خلقت من حكايتها طاقة إيجابية يعرفها جيدًا كل من يعرف «غادة» ويراها نشيطة دائمًا فى المؤسسة، تحدثت لـ«اليوم السابع» عن «هجر الأزواج» الذى خصصت له فصلاً فى كتابها الأخير، بعنوان «ساندويتش الأزواج»، قسمت «الساندويتش» لثلاث قطع رئيسية، هى شريحة التوست الأولى، أو ما عنت به القصص الشبيهة بحكاية «سلوى» التى بقى زوجها ليقدم لها دعمًا معنويًا، بشرط ألا تطالبه بما هو أكثر، والجزء الثانى كان «محتوى الساندويتش» الذى قصدت به القصص الصعبة من الهجر القاسى.
أما الجزء الثالث والأخير أو «شريحة التوست الأخيرة»، فكان بمثابة دعوة للأزواج ليتعرفوا على ما قد يفعله «الهجر» بقلوب السيدات قبل أن يصيب أجسادهن.. دعوة وتساؤلات طرحتها «غادة» فى كتابها على الزوج الذى يمارس الهجر بأريحية تشبه فجاجة المرض، وقدرته على الاقتحام دون أسئلة أو أعذار أو وعود مؤجلة بالتبرير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة