«أنتِ متسامحة علشان كده بنحبك»، إحدى الكلمات الطيبة التى أسمعُها كثيرًا من قرائى. والمقصود بها هو «التسامُح الدينى»، وبرغم أن الكلمة تخرجُ من فمٍ مُحبٍّ وتأتى دائمًا فى سياق المديح، إلا أنها من جمُلة الكلمات التى أرفضُها، وأراها خارج سياقها اللغوىّ الصحيح.
بدايةً أودُّ أن أردَّ الكلمةَ إلى المعجم, حتى نقف على معناها اللغوىّ الدقيق. فى المعجم «الوسيط» نجد: تسامَحَ الشَّخصُ فى الأمر: تساهَل فيه وتهاون. فنقول: «لا تتسامحُ الدَّولةُ مع الخونة والمتآمرين، لكنها قد تُسامح فى شُرْب الخمر». نكتشف هنا أن «التسامُح» يأتى مع الجرائم أو الأشياء السلبية. فليس واردًا أن نقول مثلا: «المعلّمةُ تتسامح مع ذكاء تلميذها»، لكن بوسعنا أن نقول: «المعلمةُ تسامحت مع الأخطاء النحوية لتلميذها، حين أعجبها موضوع التعبير». وفى «لسان العرب»، نجد ما يلى: السماحُ والسماحةُ: الجودُ والكرم والعطاء عن سخاء. وفى الحديث يقول اللهُ عزَّ وجلّ: «اسمحوا لعبدى كإسماحه إلى عبادى»، أى كونوا كرماءَ مع عبدى مثلما هو سخىّ مع عبادى، وسمح لى فلانٌ، أى أعطانى وسمح لى بذلك. ويُقال: «سمحتِ الناقةُ» إذا انقادت. والمسامحة: المُساهلة فى الطعان، وهو الطعن فى العرض والشرف. والخلاصة أن «سَمَح»، تُقال عند التكرّم بالعطاء، و«أسمَحَ»، تُقال عند الاتّباع والانقياد والذُّل. وكلا المفردتين هما الجذر اللغوى لعبارات من قبيل: «متسامح دينيًّا» أو «التسامح بين الأديان»، إلخ.
فهل ترون الكلمةَ مناسبة ودقيقةً لغويًّا، حال الكلام عن «احترام» الآخر العَقَدى، أو ما يُسمّونه «التسامح الدينى»؟ هل حقُّ المرء فى اختيار عقيدته، هو شىء سلبىّ قد «أسامح» فيه إن اختلف دينُه عن دينى؟! إن احترم شخص مسيحى حق شخص مسلم فى اختيار دينه، أو العكس، هل يُعدُّ ذلك تَفضُّلا وكرمًا وسخاءً وعطاءً من قوى لضعيف ومن غنىّ لفقير؟ أم هو مذلّةٌ وخنوعٌ واتّباعٌ من ضعيف لقوى ومن ذليل لجبّار؟ لا هذا ولا ذاك. كلا المعنيين خطأ.
فحين تحترم وتحبُّ المختلفَ عنك دينيًّا فلا تحاربه ولا تقتله ولا تعنف معه أو تزدرى دينَه، فلا أنت ذليلٌ تابع، ولا أنت كريمٌ متفضّل. إنك فقط إنسانٌ سوىٌّ ناضج نجوت من مرض الطائفية الذى اِبتُلى به الآخرون الذين أهرقوا الدماء فى الحروب الدينية من الصهاينة والصليبيين والإسلاميين. وحين «تتعايش» مع المختلف عنك دينيًّا فأنت فقط إنسانٌ طبيعى عاقل. وقد وضعتُ كلمة: «تتعايش» بين مزدوجين، لأننى أرفضها أيضًا، وأستبدلُ بها كلمة أرقى هى: «العيش»، فالتعايشُ لا يكون إلا مع «عدو» أو مع «مرض»، فمريضُ السُّكر «يتعايش» مع مرضه حين ينجح فى كبح تداعياته وأعراضه. والشخصُ «يتعايش» مع جار السوء أو العدو، حين ينجح فى تجنّب شروره، لكنك «تعيشُ» مع أسرتك وأصدقائك وجيرانك الطيبين. «التعايش» فلسفيًّا ولغويًّا يشبه «التسامح»، كلاهما يحملُ معنى الجبر والاضطرار، أنت تتسامح مع عدوك، وتسامح من أساء إليك، وتسمح لإنسان بما ليس من حقّه. وكل ما سبق معان مغلوطة حال الكلام عن بشر ينتمون إلى عقائد مختلفة يعيشون معًا على أرض واحدة أو فى كوكب واحد أو فى كون واحد، فالمختلف عنك دينيًّا ليس عدوك، ولا هو أساء إليك، ولا أنت تمنحه ما ليس من حقّه حين تحترم اختلافه عنك.
الأخطرُ من كلِّ ما سبق، هو أنك حين تسمحُ بشىء، فأنت بالضرورة تملك حقَّ «ألا» تسمح به، فمثلا: «أسمحُ لك أن تستخدم قلمى فى الكتابة»، جملةٌ صحيحة، ولكن: «أسمحُ لك أن تستخدم قلمَك فى الكتابة!»، جملةٌ غير صحيحة، فمن حقى «ألا» أسمح لك باستخدام قلمى، ولكن هل من حقى ألا أسمح لك باستخدام قلمك؟! الأمر نفسه حال الكلام عن العقائد واحترام حق الغير فى حرية الاعتناق. فليس من حقى أن أسمح أو أتسامح أو أُسامحَ إنسانًا لا يدين بدينى، ببساطة لأننى لا أمتلك الحقَّ فى «ألا» أسمح له بذلك، أو أتسامح معه بسبب ذلك.
وبناءً على ما سبق، فإننى حين أرفض التمييز ضد أقباط مصر وأطالب بحقوقهم المهدورة فى بلادهم، فلستُ متسامحة، بل أنا إنسان طبيعى ناضج، وحين زار الرئيس عبدالفتاح السيسى الكاتدرائية لتهنئة الأقباط فى عيدهم، لم يكن متسامحًا دينيًّا، بل كان إنسانًا طبيعيًّا ورئيسًا ناضجًا يعرف واجباتِه وحقوقَ مواطنيه، وحين حارب المصريون كلَّ حروبهم معًا مسلمين ومسيحيين، لم يكونوا متسامحين دينيًّا، بل مصريون وطنيون ناضجون يقفون فى وجه عدو واحد، وحين خرجنا فى ثورات مصر منذ 1919 وحتى 2013 معًا مسلمين ومسيحيين، لم نكن متسامحين دينيًّا بل سلكنا سلوك الإنسان الطبيعى الناضج الذى خرج لينصر وطنه. وحين سافرتُ بالأمس مع وفد قاهرى لزيارة أبناء العريش الأقباط الذين يهددهم مسوخُ داعش، لم نكن متسامحين، إنما فعلنا ما يمليه علينا ما بداخلنا من «إنسان» ناضج عاقل أكرمه الله بنعمة العقل السليم والقلب السليم، لستُ متسامحة دينيًّا حين أحبُّ البشر دون النظر إلى عقائدهم، بل أنا إنسان حُر يشكرُ الله على نعمة الحياة، والعقل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة