أمس، راح عدد من المواطنين ضحية إزاء عمل ارهابى خسيس فى حادث تفجير كنيسة مار جرجس فى طنطا، ولازالت الدماء تنزف، والدموع تذرف، والقلوب تتألم، بسبب هذا الحادث الذى دبر ليلا، ليغم ويعم الحزن جميع المصريين، باستثناء هؤلاء أصحاب الفكر المتطرف، الذين يبتسمون عندما نبكى.
ما حدث فى طنطا، وقبله تفجير الكنيسة الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، مشاهد قاسية بجوارها مشاهد أخرى لتنظيم "داعش" وهو يحرق المعتدى عليهم يتلخص أمامك فكر هؤلاء المتطرفين الذى لم يُسفر إلا عن بغض الإسلام والمسلمين، نظرا لأن هذه الجماعات توحى لغير المسلمين بأن ما يقومون به هو صحيح الدين الإسلامى.
ويبقى هناك عدة تساؤلات.. ما هو الدافع لهؤلاء لإعلان الحرب على الإنسانية، وإشهار السلاح فى وجه المجتمعات، ومعاداة الشعوب قبل الحكومات، وتفجير الكنائس واستهداف الاقباط، الإجابة على هذا الأسئلة هى كلمة واحدة ألا وهى "العقيدة".. والعقيدة لمن لا يعرف هى ما يعقد عليه الإنسان قلبه، عقداً جازماً ومحكماً لا يتطرق إليه شك.
بالمختصر، المتطرفون يعتمدون على تفسيرات خاطئة لآيات قرآنية وأحاديث نبوية، لإقناع أنفسهم بأن الحرق والقتل وتفكيك الدول وتدمير العباد، هو صحيح دين الإسلام وعبادات يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى لنيل الشهادة والفوز بالدنيا والآخرة.
لكن لماذا اعتمد "حملة السلاح" على نوعية محددة من التفاسير، ولماذا صدق أبتاعهم هذه التفاسير؟ وهل لم يكن هناك تفاسير لـ"حملة الوسيطة" لمجابهة التطرف؟ وإذا كانت موجودة فأين هى ولماذا لم تنتشر على غرار التفاسير المتشددة؟ ولماذا أيضا لم تنجح فى مناهضة التأويلات الخاطئة وتنتشى عناصر الجماعات المتطرفة من الإرهاب؟
داخل الجماعات المتطرفة لا يمكن الاضطلاع إلا على الأفكار التى يبثها شيوخ التنظيم ومنظريه، فالقراءة لمفكرين ومفسرين غير أقطاب التنظيم ممنوعة منعًا باتا تصل إلى التحريم، ومبدأ "السمع والطاعة" المشهور لدى الإخوان يعتبر آفة داخل أغلب التيارات الإسلامية، وعناصر الجماعات المتطرفة تسير بقاعدة "من فوق يعلم أكثر ونحن علينا تنفيذ ما يقولوه"، لذلك لو كانت هناك تفاسير وسطية تظهر سماحة الدين وتبرز مقاصد الآية والحديث لن يطلع عناصر التنظيمات عليها بسبب الآلية التى يسيرون بها.
فمثلا هناك تفاسير لأبو أعلى المودودى مؤسس الجماعة الإسلامية فى الهند، والذى أقر أن هدفه المنشود، هو إنهاء ما سماه "إمامة الكفرة الفجرة" وإقامة نظام "الإمامة الصالحة" للإمساك بزمام الأمور البشرية، كطريق أوحد لإصلاحها، وتطلب هذا منه توظيف أركان الدين وفروضه التعبدية، ومفاهيم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد، توظيفا سياسيا، ووفق لهذا التأويل المتعسّف، أصبحت أجزاء الدين كلها تابعة للسياسة، فى محاولة لإعادة بناء مفهوم الدين ذاته، فلا يقام الدين عنده، إلا من خلال حكومة وسلطة، ودعوة الناس له لا تنجح إلا بسيطرة فوقية على الدولة، والوصول إلى السلطة لا يتم إلا بتكوين جماعة مسلحة، مع إطلاق عناوين الجهاد والنضال فى سبيل الله "ابتغاء لمرضاة الله والفوز بالجنة" على هذا المسار العنيف الدموى.
وقد استقت جماعات متطرفة من أفكار "المودودى"، لكن على النقيض كان هناك مفكر إسلامى هو بالمناسبة هندى الجنسية أيضا وهو وحيد الدين خان، فبرغم من أنه أحد أهم رموز الإصلاح والإحياء الدينى المعاصرين؟ لكنه لم يشتهر ولم يُنشر علمه وفكرى ولم يحظى بنفس الشهرة التى حظى بها "المودودى"، وهذا كله يرجع إلى أن حاجة "الإسلام السياسى" تحتاج إلى تنظير فكرى يدعم ممارساته، ويبرر لجوءه إلى العنف والاستعلاء والتكفير والتفجير، بالإضافة إلى أن يطرح ما يقوله شيوخ على أنه صحيح الدين، ولعلك تتذكر أن أحد كتب سيد قطب يحمل أسم "هذا الدين".
لكننا يجب هنا أن ننبه إلى أن آفة المفكرين والعلماء ليس لهم أتباع ينشرون أفكارهم ويجابهون بوسطياتهم، تشدد المتطرفين، ولذلك يحب على الدولة أن تستفيد من هؤلاء العلماء وتقوم مؤسسات الدولة بذلك.
بالإضافة إلى أن الجماعات المتطرفة تظل طوال الوقت تغذى عناصرها بالأفكار التى تؤمن بها فقطـ، وتطرحها دائما على أساس أنها الدين، فهناك معضلة كبرى، ألا وهى أن هذه الجماعات وشيوخا يعتمدون فى بث أفكارها على قول الله وقول رسول الله، ولكن بتفاسيرهم الخاطئة، ولذلك عندما يحاول مفكر أو عالم إقناع أعضاء الجماعات المتطرفة بالأخطاء التى يرتكبونها، يصنف عناصر التنظيمات هؤلاء العلماء والمفكرين على أنهم شيوخ سلطة يعملون ضد الدين ويحاربون صحيح الإسلام، وخاصة أن بعض التفاسير التى يعتمد عليها شيوخ الإرهاب معتمدة، ومنشورة ومتواجدة فى المكتبات الكبرى ومنها على سبيل المثال كتاب فى "ظلال القرآن".
ودائما يتناسى أغلب عناصر تنظيمات "حملة السلاح" أن التفاسير هى أعمال البشر، وليست عملا مقدسا يمكن الأخذ منه والرد عليها، ليس هذا فحسب، بل هناك تفاسير لشيوخ تناسبت فى وقتها لظروفها وتماشت مع الموقع السياسى والمناخ العام، بمنعى أنها نسبية لا تصلح فى أى وقت أو لأى مكان، فلا يمكن اسقاط تفاسير "المودودى" الذى وظف الدين لأغراض سياسية فى الهند على الواقع المصرى، لان الظروف والأوضاع تختلف هنا عن هناك.
وهناك مجموعة من الآيات والأحاديث، يعتمد عليها الجماعات المتطرفة منها قول الله تعالى" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} فضلا عن قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وهى الآية التى اتخذتها الجماعات المتطرفة ذريعة لتكفير الشعوب والحكومات، بالإضافة لهذه الآيات هناك آيات أخرى، وعدد كبير من الأحاديث ومنها قوله صلى الله عليه وسلم "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" وأيضا قوله " من قاتل فى سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، ومن جرح جرحا فى سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت ، لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ، ومن خرج به خراج فى سبيل الله عز وجل فإن عليه طابع الشهداء" بالإضافة إلى قوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا منى دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى، وبالإضافة لأحاديث أخرى.
هناك تفاسير وسطية لهذه الآيات والأحاديث النبوية تظهر المقاصد الصحيحة لها، لكن هناك مجموعة من التفاسير المتشددة يدور فى فلكها الجماعات المتطرفة أغلبها لشيوخ ظهروا حديثا، واللافت أن أغلبهم من مصر، ومن أشهرهم سيد قطب صاحب كتاب تفسير "فى ظلال القرآن" وشقيقه محمد قطب صاحب كتاب هل نحن مسلمون؟.
ومن أبرز الشيوخ المؤصلة للفكر الجهادى المتطرف، ولهم باع فى الحركة الجهادية المتطرفة، سيد إمام واسمه الحركى دكتور فضل، ومن أهم كتبه "العمدة فى إعداد العدة) الذى يعتبر مرجعاً جهادياً فى مخيمات تدريب قاعدة الجهاد فى أفغانستان، وأيضا محمد عبد السلام فرج الذى تصفه الجماعات المتطرفة بالمفكر ومنظر الجهاد ومن أهم مؤلفاته "الفريضة الغائبة".
كما هناك أيمن الظواهرى زعيم تنظيم القاعدة، الذى ألف عدة كتب تحرض على العنف ومنها "فرسان تحت راية النبى" و "رسالة فى تبرئة أمة القلم والسيف من منقصة الخوار والضعف".
ومن الشيوخ المنظرى لفكر الجهاد المتطرف، لكنهم من خارج مصر، الشيخ عبد الله عزام الأب الروحى للجماعات على مستوى العالم وهو صاحب كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، الذى يرسخ للعمل المسلح، بالإضافة إلى أبو الأعلى المودودى صاحب كتاب "الجهاد فى الإسلام" وهناك آخرون يمكن وصفهم بأئمة الجهاد المتطرف.
"واجب المسلم أثقل من الجبال تجاه الطواغيت أن ينفذ قانون الله عز وجل ويزيل القوانين الوضعية حيثما كانت لتحل محلها القانون الربانى لنظام الحياة" هذه مقولة متداولة بين العناصر المتطرفة لـ"المودودى".. اقتبسها هشام النجار الباحث فى شئون حركات التيارات الإسلامية ليؤكد أن بدعة إنشاء الجماعات لحمل السلاح قام منظروها بتأصيلها وشرعنتها، لذلك وظفوا تحريف جميع آيات الجهاد عن معناها الصحيح وإخراجها من سياقها التاريخى الذى قد يكون مناسبا لأحوال وظروف معينة فى فترات بعينها لتوظيفها وجعلها تنطبق على مواجهة الحكم والأنظمة والمجتمعات المسلمة والعربية اليوم بزعم جاهليتها وبعدها عن الدين بسبب ارتكاب بعض المعاصى او الذنوب وحشد بعض المظاهر العصرية التى يصورونها على أنها كفر ومحاربة لله فى ملكه.
ويضيف "النجار":"ليس توظيف آيات الجهاد فحسب بل توظيف حتى الصلاة والإسراء والمعراج وتصويرها كأن الله لم يشرعها إلا لإقامة الحكومة الاسلامية يقول المودودى موظفاً السنن الكونية والغاية من الوجود كله لمشروعه : " إن هذه الكرة الأرضية التى نعيش عليها هى إقليم صغير من الحكومة الإلهية الواسعة العريضة ، ومثل إرسال الرسل فيه كالسلطات الدنيوية التى تعين الوزراء فى كل محافظة وولاية .. ولله المثل الأعلى " .
ويشير "النجار" إلى أن سيد قطب يعطى "جميع المسلمين" بدون تحديد ولا ضبط حق شن الحروب المطلقة لخدمة قضايا إطلاقية بدون ضابط ولا رابط، وبدون أية اعتبارات لموازين القوى أو للرؤى الإستراتيجية والآثار الجانبية والممالآت والنتائج، فهو يقول:" الإسلام فى جهاد دائم لا ينقطع أبداً لتحقيق كلمة الله فى الأرض، وهو مكلف ألا يهادن قوة من قوى "الطاغوت" على وجه هذه الأرض، فحيثما كان ظلم فالإسلام منتدب لرفعه ودفعه"!
ويضيف :"كذلك لعبت كتابات محمد قطب –شقيق سيد قطب دوراً كبيراً فيما نراه من سيولة وفوضى فى ساحات حمل السلاح والقتال باسم الدين من خلال أى أحد وفى أى وقت وفى أى مكان دون رابط ولا ضابط، وكأنها رحلة ترفيهية أو نزهة خلوية، يقول محمد قطب فى كتابه "دلالات الجهاد الأفغاني": "إن ما يميز الأمة الإسلامية إلى جانب العبادة كباقى الديانات السماوية، أنها مكلفة كذلك بالجهاد"، والجهاد فى تصوره هو القتال لهذا الغرض بحسب قوله: "إزالة تلك النظم الجاهلية التى تحميها الجيوش الجاهلية أو فى القليل إخضاعها لأنها ذات ثقل معين فى حس الناس يجعل الحق ينحرف عن مساره فى نفوسهم، فان أبت الجاهلية الحق وأبت أن تزيل الحواجز من طريقه ليصل للناس صافياً بلا غبش فعندئذ يكون القتال".
ولخص "النجار" أزمة أئمة الإرهاب قائلا :"هم باختصار يخلطون بين حالتى الحرب والسلام، أما الفهم الصحيح للإسلام فيقتضى التفريق بين الحالتين والعمل بنصوص الحرب فى حالة الحرب والعمل بنصوص السلام فى حالة السلام، فليس كل خطاب للجهاد ضد الكافرين يمكن تطبيقه فى جميع الحالات، كما فى قوله تعالى: "يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير"، فهذه الآية –على سبيل المثال– إذا تم العمل بها فى الحياة الاجتماعية فى حالة السلام لأنحرف العاملون بها إلى الإرهاب والدموية والغدر والخيانة التى ينهى عنها دين الإسلام، إنما العمل بها فقط فى سياقها وفى مكانها وظروفها فى حالة الحرب والاعتداء ووفق ضوابط صارمة، والقرآن بخلاف هذه الآية ملئ بالآيات التى تتحدث عن التعايش والسلام بين البشر، وفى حالة الحرب هناك ضوابط وقيود والتزامات أخلاقية ودينية، وفى حالة السلام هناك إلتزامات ومواثيق وعهود يجب الوفاء بها، كما يجب التنبيه على أن إختلاف الدين بحد ذاته ليس دافعاً للحرب والقتال إنما تقوم الحرب لأسباب أخرى.
"منطق الجهاد فى الإسلام، استخدام القوة للدفاع عن الذات عن الجماعة المسلمة خصوصا بعد أن أصبح لها دين ولها دعوة ولها هدف فى الحياة، ولكن بعض الجماعات التكفيرية انحرفت بتأويل بعض الآيات القرآنية والأحاديث الى مسارات اخرى - ترتب عليها حمل السلاح فى مواجهة المجتمع واستهداف الأبرياء - و لهذا تجد أن الجماعات المسلحة فى العالم الإسلامى قد تحولت فى السنوات الأخيرة من تقديم نفسها كجماعات تسعى إلى تقرير المصير بموجب القانون الدولى فى الفترة الممتدة من الخمسينات إلى السبعينات، إلى "اتجاه أكثر ثورية يرفض القانون الدولى العام بهدف مواجهة العلمانية الغربية ، او الراديكالية المتشددة فى مواجهة الحادثة هكذا وضح أحمد عطا المتخصص فى شئون الجماعات المسلحة، كيف جعلت الجماعات المتطرفة وسيلة الجهاد من دفاع إلى هجوم على المسالمين.
ويضيف "عطا" :"تقدم الجماعات الجهادية مبررات متنوعة للهجمات التى تشنها على المدنيين، إذ ترى بعض الجماعات أنه نظراً لأن الجيوش غير المسلمة تقتل مدنيين مسلمين، فإن ذلك يعد مبرراً لقتل المدنيين غير المسلمين، وترى جماعات أخرى أن المدنيين يساهمون فى مجهود الحرب "بالفعل والقول والفكر"، وتقول أخرى أنه قد يستحيل أحياناً التمييز بين المدنيين والمقاتلين.
ويقول: "مع مطلع السبعينيات من القرن الماضى ظهرت ثلاثة مستويات تجسد الفقه الجهادى العسكرى وان تباينات فيما بينهم فى تكتيك مواجهة الدولة وآليات التبرير لانتهاج هذا الفكر ، جماعة الجهاد الاسلامى وتؤمن الجماعة بتكفير الدول والأنظمة والمؤسسات والتى تحكم بغير بما انزل الله تعالى او تتحاكم الى غير شريعة الله - وتأثر جميع أعضاء التنظيم بالشيخ محمد خليل هراس بالإضافة كتاب فى ظلال القران ومعالم فى الطريق للشيخ سيد قطب الذى يعتبر المرجعية الأولى للمجاهدين الاوئل - وكانت الآيتان ٤٤-٤٦ من سورة المائدة هما بمثابة استشهاد وتفسير غير صحيح وغير مبرر على عكس ما تشير الايه الآيتان (ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون) وترتب على هدا ارتكاب العديد من العمليات المسلحة فى مواجهة الدولة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة