هى حالة لا يجد لها العاقل تفسيرا، ويجد لها العاشق ألف تفسير، تسأله: هل ستنهض مصر من عثراتها؟ فيقول لك مطمئنا «نعم»، تسأله عن المقدمات والأسباب، فلا ينطق ببنت شفة، تسأله عن الإحصائيات والأرقام والمعادلات، فيكاد أن يهزأ بك، ولسان حاله يقول: «قول يا باسط»، تدهش أنت، وتحسب أن الأمر لا يتعدى قاموس اللامبالاة المنتشر فى ربوع مصر بلا مناسبة، لكن فى الحقيقة فإن لها اليقين جذور لا تراها العين المجردة، ولرسوخه أسباب لا يعرفها الكثيرون برغم أنها واضحة بازغة.
نعم ثقتنا فى مصر لا تنتهى، ثقة العابد فى الرحمة، والزاهد فى الطمأنينة، والعاشق فى اللوعة، ثقة أشبه باليقين، مثل الحياة والموت، لو سألت البشر عن يقينهم الوحيد فسيجيبونك «الموت»، ولا يعد هذا تشاؤما ولا سوداوية، بل هو إقرار واقع، مسلمة أيقن الجميع من صحتها بالتواتر، كلنا أموات، ولدنا أموات، فأنجبنا أمواتا، ومثلما أصبح الموت يقينا، أصبح تخطى مصر لعقباتها يقينا أيضا، فهى القديمة قدم العالم، الوحيدة التى لم تنطفئ على مدى كل العصور، حتى فى أحلك أيام الاحتلال كانت القادرة على الإبهار، المعجبة بذاتها، الشامخة دون مساعدة، ازدهرت فى العصر القديم، وازدهرت فى العصر اليونانى، وازدهرت فى العصر الرومانى، وازدهرت فى العصر الإسلامى، وازدهرت فى العصر الحديث، على مدى العصور والأيام كانت رقما كبيرا فى معادلة العالم، فمن ذا الذى يستطيع أن يصغرها أو يحط من شأنها؟
يقول لى صديقى الواقعى: كفاك رومانسية، وأقول له: وما الرومانسية فى هذا؟ فمسألة بقاء مصر ونهضتها أشبه بقانون كونى، ولقد عبرت مصر كل المحن التى مرت عليها، وخرجت من أحلك العصور المظلمة بكامل نورها، فما الذى تغير؟ منذ ميلاد الزمن ونحن هنا، ومنذ ميلاد الزمن ومصر عصية على الإنكار، مصر أكبر من عدة صفقات كبيرة أو صغيرة، أكبر من بضعة قبائل مجتمعة أو مفردة، أكبر من شحنات المزايدة التافهة، ومن جرعات التشاؤم المغرضة، أكبر من أن تعلق حلمها على مشجب من وهن، وأكبر من أن تخضع لمقامر أحمق أو تافه مأفون، أكبر من أعدائها مجتمعين، وأكبر من جرعات الغل المسمومة من بعض أبنائها، فمتى يعرف الجاهلون أن بقاء مصر حقيقة علمية؟
نشر هذا المقال الأربعاء 16 نوفمبر 2016 وأعيد نشره مرة أخرى.