يفرض مقعد الإمام الأكبر ضوابطه وأحكامه على من يجلس عليه، فهو من ناحية مكلف بنشر الدعوة الإسلامية بصورتها الوسطية، ومن ناحية أخرى عليه أن يصد الهجوم الذى يتسبب فيه من خلطوا السياسة بالدين، وشوهوا صورة الأخير، حتى وإن كانت الأحداث السياسية الأخيرة فى مصر قد ورطت الكل فى اللعبة.
الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، وعبر علاقته بحركات الإسلام السياسى حاول أن يتحلى بالصبر وأحيانًا بالصمت ومرات بالمهادنة، ولكن كل تلك المحاولات لم تصمد أمام تفجر الوضع السياسى فى مصر إزاء حكم الإخوان المسلمين ومن ناصروهم من السلفيين والجماعة الإسلامية، فالتصاق اسم الإسلام بتلك الجماعات السياسية دفع بالأزهر الشريف إلى أن يكون فى مقدمة مشهد الرافضين والمتصدين لما يجرى فى هذا الشأن، وخلق له أدوارًا متعددة لا تقتصر على الحفاظ على مكانته كجامعة إسلامية كبرى تنشر الفكر المستنير فى ربوع الدنيا، وإنما تمتد إلى حمل لواء الدفاع عن الإسلام الوسطى فى مواجهة من يسيئون إليه.
«نحن كأزهريين لا نبدع ولا نفسق المذهب السلفى، ولكن نضعه فى حجمه الحقيقى» يقول الطيب، ويضيف: «ولا يمكن لأزهرى حقيقى أن يقع فى هذا المذهب إلا الأزهريين الذين أصابهم ضعف الدراسة، فلا يوجد أزهرى «ملو هدومه» يتأثر بتلك الأفكار والمذاهب» يؤكد الشيخ بعدما ضاق ذرعًا بأفعال السلفيين وأقوالهم، ويوضح: «جمهور المسلمين لم يكونوا على هذا المذهب فلفظ السلف لم يرد فى القرآن غير مرة واحدة ووردت فى موضع الذم، فهناك تدليس فى استخدام هذا الاسم» يشدد الشيخ.
السلفيون لا يخفون بدورهم عداءهم للإمام الأكبر لأسباب عديدة، أهمها صوفيته، فالإمام الذى ينتسب للمنهج الأشعرى مكفر لدى عموم السلفيين الذين أغلقوا عقولهم على استيعاب النقل وأبطلوا دور العقل فى النص القرآنى، وما تلاه من نهضة كبيرة، التى كان الطيب نفسه من بين علمائها.
«خوارج العصر» هو الوصف الذى استقر عليه الطيب ليصف جموع السلفيين المتأثرين بالأفكار الوهابية تلك التى ترى الدين من الخارج لا من الجوهر، ثم عاد الطيب وأعلى مبدأ لم الشمل الذى يؤمن به والتقاهم أكثر من مرة عقب ثورة 52 يناير، وبالفعل نجحت مساعيه فى لم الشمل إلى حد أن السلفيين كانوا يدافعون عن الأزهر ويطالبون بإقرار مادة له بالدستور.
بعد ثورة 30 يونيو فترت علاقة شيخ الأزهر بالسلفيين مرة أخرى، خاصة بعد ما شهدته جامعة الأزهر من أحداث عنف وتظاهرات اشترك فيها الطلاب السلفيون إلى جوار الإخوان الذين أرادوا الانقضاض على الجامعة وهدمها.
علاقة الطيب بجماعة الإخوان المسلمين لا تقل حدة عن علاقته بالسلفيين بل تزيد، فمنذ كان الشيخ رئيسا لجامعة الأزهر كان الطلاب الإخوان الذين أطلقوا على أنفسهم جيل النصر المنشود يتعمدون الإساءة للدكتور الطيب، وكانوا ينظمون التظاهرات بأوامر من قادتهم وقتئذ ومنهم القيادى الإخوانى محمد البلتاجى، حيث كان يتظاهر الطلاب تحت مكتب الطيب بالجامعة رافضين لما كانوا يسمونه بالتضييق عليهم، ومنذ قيام ثورة 52 يناير حاولت الجماعة السيطرة على المشيخة وإزاحة الطيب من على الكرسى فقاموا بتنظيم التظاهرات ضده لخلافهم الفكرى والعقائدى مع الشيخ، وفى لحظة من تلك اللحظات، كاد الطيب أن يتقدم باستقالته نظرا للهجوم عليه الذى بلغ حد التطاول من قبل البعض، وهو ما لم يتحمله الإمام فى البداية، لكنه سرعان ما أدرك أن استقالته ستؤدى إلى سيطرة الإخوان على الأزهر فتراجع عن فكرة الاستقالة وفضل المواجهة للحفاظ على المؤسسة من الاختطاف.
حاول الإخوان التقليل من شيخ الأزهر خاصة فى حادثة جامعة القاهرة أثناء الخطاب الأول للرئيس المعزول محمد مرسى عقب توليه الرئاسة، حيث لم يخصص مقعد فى الصف الأمامى لشيخ الأزهر وخصص له مقعد فى الصفوف الخلفية كما لم يسمح له بدخول قاعة كبار الزوار، مما جعل الطيب يغضب وهم بتوجيه حديث حاد لقيادات الإخوان حينها قائلا لهم: هتبدأو من أولها!، وانصرف ولم يحضر الخطاب.
مواقف عديدة عبرت عن عداء جماعة الإخوان للشيخ ومحاولتهم تقييد دور الأزهر والعبث بمادته بالدستور، كما أنهم حاولوا تعيين رئيس للجامعة، وهو ما رفضه الشيخ حينها كما رفض تعيين نواب للجامعة.
شيخ الأزهر دائما ما يعترف أن الإخوان موجودون بالأزهر، وذلك بحكم أن الأزهر يقبل الجميع «ولكن على من يدرس أو ينتسب إليه أن يلتزم بمنهجه».
محاولات الإخوان «تطفيش» الطيب استمرت، وكان من ضمنها افتعال أزمة تسمم طلبة المدينة الجامعية برغم أنه لم تثبت حالة واحدة، حينها حدثت ضجة كبيرة، وقام طلاب «المحظورة» بتنظيم التظاهرات واقتحام المشيخة ومحاولة الوصول إلى مكتب شيخ الأزهر لولا أن رجال الحرس الخاص استطاعوا أن يخرجوه قبل وصول طلبة الإخوان إليه. وظل الصراع بين شيخ الأزهر والإخوان قائما، فقد جرى العرف أن يرشح شيخ الأزهر وزير الأوقاف بالتنسيق مع رئيس الوزراء فى أى حكومة جديدة، وبالفعل فى حكومة هشام قنديل بعث شيخ الأزهر ترشيحه لاسم الدكتور أسامة العبد وزيرا للأوقاف، ولكن الإخوان لم يوافقوا ورشحوا الدكتور طلعت عفيفى، لتخرج الأوقاف عن سيطرة شيخ الأزهر وتنفصل عن المشيخة طوال فترة حكمهم.
تقرير دولى: الإمام الأكبر أكثر الشخصيات الإسلامية تأثيرا فى العالم
المركز الإسلامى الملكى: «الطيب» حجر عثرة أمام جماعة الإخوان لدفاعه عن وسطية الإسلام.. وبذل جهوداً فى مواجهة تنظيم داعش الإرهابى
احتل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيِّب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، المرتبة الأولى من حيث الشَّخصيات الإسلامية الأكثر تأثيرًا فى العالم، وذلك فى التقرير الذى يصدر سنويًّا عن المركز الإسلامى المَلكى للدراسات الاستراتيجية بالعاصمة الأردنية «عمان»، والذى جاء فى كتاب حمل عنوان «أكثر 500 شخصية مسلمة تأثيرًا فى العالم لعام 2017».
وخصَّ التقرير الـــ50 شخصية الأولى بترجمات خاصة مع صورهم، مؤكدًا أن الإمام الأكبر الذى يرأس أكبر مؤسسة إسلامية سنية فى العالم، يمتلك السلطة العلمية الأعلى لأغلبية المسلمين السنة فى العالم، ويمتد تأثيره العلمى كمفكر رائد فى الإسلام السنى عبر العالم أجمع.
وذكر التقرير أن الإمام الطيب، الذى ينتمى إلى المدرسة الفكرية السنية الوسطية، يترأس أيضًا مجلس حكماء المسلمين الذى أنشئ فى عام 2014م بهدف نشر ثقافة السلم والتعايش المشترك فى كل ربوع العالم، ونبذ العنف والإرهاب، ومواجهة ما تتعرض له تعاليم الدين الإسلامى من تشويه وتحريف عبر الاعتماد على الفهم الصحيح لها.
وأشاد التقرير بالجهود التى يبذلها فضيلة الإمام الأكبر فى مواجهة تنظيم «داعش» والقضاء على تأثيره، حيث نظم العديد من المبادرات والمؤتمرات فى هذا الصدد، كما عمل على تحسين العلاقات الخارجية للأزهر الشريف واستعادة دوره العالمى، وقَبِل دعوةً لمقابلة البابا فرانسيس فى الفاتيكان فى مايو من العام 2016 لأول مرة فى تاريخ الأزهر، فيما اعتبر أن الإمام الطيب كان بمثابة حجر العثرة أمام جماعة الإخوان المسلمين؛ لدفاعه عن وسطية الإسلام، «مشتملا على البعد الرُّوحى له المتمثل فى الصوفية» فى مواجهة جهود جماعة الإخوان لتحويل الإسلام من دينٍ وسطى إلى قوة تسعى للحكم الدينى.
وتابع التقرير أن الإمام الأكبر أكد مرارًا وتكرارًا على رسالته المتمثلة فى تعزيز الإسلام الوسطى منذ أن أصبح شيخا للأزهر، حيث أكد أهمية تعليم الطلاب تراثهم الإسلامى، معتبرا خريجى الأزهر بمثابة سفراء للإسلام فى العالم أجمع، موضحًا أنه فى الوقت الذى بدأ فيه ظهور التشدد الإسلامى فى كل مكان، كان لدى الإمام الطيب المهارات الشخصية والمؤسسية اللازمة لفرض نفسه كممثل للإسلام الوسطى ومدافعا عن الإسلام الذى مارسته الأغلبية العظمى من المسلمين فى مختلف العصور.
وذكر التقرير أن الإمام الأكبر يترأس ثانى أقدم جامعة على مستوى العالم، حيث استمر التعليم فيها منذ العام 975م، موضحا أن الأزهر يمثل مركزا للإسلام السنى فى العالم، كما أنه المؤسسة الرئيسية التى تصدر عنها الأحكام الشرعية والتعاليم الدينية والتى تقدم التعليم الإسلامى المكثف للطلاب المصريين والدوليين منذ افتتاحها من أكثر من ألف عام، حيث تملك من التاريخ ما يجعلها حصنا ومعقلا للإسلام الوسطى والتراث الإسلامى، مشيرا إلى أن خريجى الأزهر يلقون قدرا كبيرا من الاحترام كقادة دينيين داخل المجتمعات المسلمة مما يجعل شيخ الأزهر شخصية مؤثرة ذات نفوذ غير عادى عالميًّا، لافتا إلى أن من أشهر مقولات الإمام الطيب أن «الوحدة بين المسلمين والأقباط صمام أمان مصر وفى غاية الأهمية».
يذكر أن تقرير «أكثر 500 شخصية مسلمة تأثيرا فى العالم» هو نشرة سنوية، صدرت للمرة الأولى فى العام 2009 لتحديد أكثر خمسمائة شخصية مسلمة تأثيرًا فى العالم، ويصدرها المركز الإسلامى الملكى للدراسات الاستراتيجية التابع لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامى، وهى مؤسسة إسلامية دولية مستقلة مقرها العاصمة الأردنية عمان.
هل يهرب الطيب من الأزمات فى «ساحة الدراويش»؟
عائلة الطيب تقود طريقة «الخلوتية» الصوفية.. ومحمود ابن شيخ الأزهر يقوم على خدمة رواد الساحة
يحرص على زيارة أسرته فى القرنة كل أسبوعين.. ويرتدى «الجلباب» الصعيدى.. ويحضر بعض جلسات الصلح العرفية
لم ينجح صخب القاهرة ولا أنوار باريس، فى إغراء الشيخ الطيب وسحبه إليهما، أو زحزحته عن صعيديته تلك التى عاش مرتبطًا بها كجذر ثابت فى الأرض، لا تهزه مناصب ولا تقلعه رياح، وظل محتفظا حتى بلهجته دون أن تتسلل مفردات المدينتين الساحرتين إليها، فالطفل أحمد الطيب الأقصرى هو نفسه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الذى يحرص على الذهاب إلى قريته كل ثلاثة أسابيع مرة يجلس فى ساحته بين محبيه ومريديه كعادة المتصوفة وشيوخ الطرق، محافظًا على إرث عائلته الصوفية التى يعود نسبها للإمام الحسن بن على بن أبى طالب وتنتهى بالرسول عليه الصلاة والسلام.
للإمام مشيخته ومنبره، وللمتصوف داخله خلوته، حيث ينتمى الإمام الأكبر لطريقة صوفية تعرف باسم بالطريقة الخلوتية، التى مازال أخوه الأكبر الشيخ محمد الطيب يقوم على أمرها باعتبارها إرثا مستقرًا للعائلة لا يمكن التفريط فيه.
يحرص على زيارة أسرته فى القرنة كل أسبوعين.. ويحضر بعض جلسات الصلح العرفية
فى ساحة الإمام الطيب بالأقصر تعقد المجالس العرفية للصلح بين المتنازعين الذين يلجأون لساحة آل الطيب لحل مشكلاتهم، يحضر شيخ الأزهر فى إجازته بعض جلسات الصلح خاصة المشكلات الكبيرة التى قد يتأجل النظر فيها حتى يعود الإمام من القاهرة ليشارك ويحكم ويفصل بها.
لم تشغله مناصبه ومشاغله عن قريته، فمنذ كان رئيسا لجامعة الأزهر مرورا بتعيينه مفتيا للجمهورية وحتى توليه مشيخة الأزهر ظل حريصا على زيارة قريته كل ثلاثة أسابيع، ثم قلص المدة إلى أسبوعين ليصل رحمه ويرى أبناءه وزوجته وإخوته الذين يسكنون الأقصر حتى اليوم.
فى ساحته، يخلع الشيخ عنه عمامته كما يخلع همومه، يرتدى جلبابه الصعيدى ويربط العمامة الأقصرية البيضاء ويجلس بالساحة كشيخ بلد قبل أن يكون شيخ جامعها الأهم.
ساحة الطيب فى البر الغربى، تفصلها أمتار قليلة عن معبد حتشبسوت الأثرى، تستقبل الضيوف وتقدم لهم الطعام، كما أنها مجهزة بأماكن للمبيت لينزل فيها الغرباء ممن لا يستطيعون تحمل مشاق السفر والعودة، ليقوم الشيخ محمد الطيب الأخ الأكبر للإمام بخدمتهم بمنتهى التواضع.
إلى جانب الشيخ محمد الطيب، فإن المهندس محمود، نجل الإمام الأكبر، يخدم زوار الساحة أيضًا، وكذلك إسلام ابن عمه، باعتبارها ساحة العائلة كلها، وفى الساحة تقام حلقات الذكر وقراءة الأوراد الخاصة بالطريقة الخلوتية التى يترأسها الشيخ محمد الطيب، وهى طريقة صوفية سنية.
وفى الساحة أيضا مسجد مكيف الهواء، ودار لتحفيظ القرآن الكريم، ومشغل للفتيات، وجمعية لكفالة الأيتام وأخرى خيرية لتقديم المساعدات، ومركز معلومات، ومستوصف طبى مجانى، وقاعة كبار زوار مكيفة الهواء، وثلاثة استراحات مكيفة للأجانب الدارسين للشؤون الإسلامية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة