سهيلة فوزى

وما أدراك ما العتبة

الجمعة، 14 أبريل 2017 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

مرت عدة سنوات منذ آخر مرة رأيته، كان يقف وحيدا مصلوبا كعادته على الحائط الطينى المزين بقشات التبن الذهبية، يبدو لأول وهلة واحدا من أولئك الذين يمتلكون شجاعة الانتحار، من يحددون وقت المغادرة بأنفسهم..

 

 يقف وحيدا يتدلى منتحرا بحبل نحيل لكنه مازال يمتلك الأدنى من براعة القدرة على القتل رُبط بعناية حول رأسه، جسده المعدنى مازال لامعا رغم طرف الموت المحكم حول رأسه، ترقد بجواره على الحائط درفة خشبية بالية، تمتد يد جدتى إليه، تتناوله من رقدته، فتدُب فيه الحياة من جديد تحرره للحظات من قبضة الموت، وتديره فى فوهة الدرفة الخشبية. العناق بين الدرفة الخشبية ومفتاحها يُحيى كلاهما من ثباتهما العميق، تنفرج الدرفة عن تجويف صغير ينهزم الظلام داخله أمام حبات الضوء الزاحفة عليه تفضح بعض مما داخله، ولكن قامتى القصيرة آنذاك تقف حائلا دون رؤية ما كشف عنه الضوء داخل التجويف المظلم، سنوات مرت حتى طالت يدى المفتاح المصلوب بجوار الدرفة، أدرته فى فوهتها كما أعتادت جدتى، ومسحت بيدى باطن التجويف أو الدولاب كما كنا نسميه، لم يكن ثمة كنز هناك كما اعتقدت فى طفولتى، لا أذكر شيئا مميزا أو ذا قيمة كبيرة فقط بضعة حاجيات صغيرة.


بعد سنوات كنت على موعد مع درفة خشبية أخرى، لم تكن كسابقتها رثة بالية ترقد مستكينة بقرية صغيرة فى الصعيد، كانت الثانية أكبر طولا وعرضا تُخفى ورائها عالما أكثر اتساعا وصخبا، لم تُخف خلفها تجويفا بسيطا فى قلب حائط أسمنتى فقط، بل كانت محلا تجاريا مستقلا فى أشهر سوق تجارى بالقاهرة، تسلمت مفتاحها فانفتح بها ومعها أمامى كوكب العتبة الشقيق.

 

درفة خشبية ضخمة ترقد خلفها بضائع مكدسة آمنة طوال الليل، وما أن يحل النهار ضيفا مرحبا به من الجميع، حتى تخرج مُبتهجة تفترش تحت أشعة الشمس بحثا عن فرصة للخلاص من سجن الدرفة الخشبية ليلا، كل قطعة من البضائع تبحث لاهثة عن مشترِ يحررها من الأسر إلى الأبد.

 

هنا العتبة.. البقعة التجارية المقدسة التى اجتمع على حبها أولياء الله والفن والسياسة. سيدنا الحُسين يوزع بركاته على الزوار الطامعين فى رضائه والساعيين لبضائع العتبة من ناحية الجمالية والأزهر، وتضئ السيدة زينب قنديلها فتنير طريق قاصدى العتبة من شارع بورسعيد، أما محمد عبد الوهاب فجلس بجوار عوده متأهبا لعزف لحن بديع يُأنس طريق قاصد العتبة من ناحية باب الشعرية، وإبراهيم باشا اعتلى حصانه شاهرا سيفه يُطمئن زائرى العتبة من أولاد الذوات الفاريين من "فاترينات" شوارع فؤاد وطلعت حرب وقصر النيل.

 

هنا العتبة كوكب الصعايدة الآمن، بعد لحظات من التجول بين شوارعها المكدسة بالبضائع من كل نوع، تشعر أنك انتقلت عبر آلة الزمن إلى قلب الصعيد، الجلباب صعيدى والشال صعيدى ولهجة كل من تتحدث إليه صعيدية زاعقة كأن صاحبها نزل لتوه من قطار الوجه القبلى، رغم أنه قضى عمره هنا فى قلب القاهرة بحثا عن الرزق لكن اللهجة الصعيدية تلتصق بألسنتهم كما يلتصق فم الرضيع بثدى أمه.


عادة يخشى أبناء القرى من أهل القاهرة -المصاروة- يخشون حيلهم فى البيع والشراء أما فى العتبة فالأمر مختلف، هنا تنعكس الآية فالقاهريون يخشون مهارة الصعيدى فى البيع والشراء، والقدرة على الخروج رابحا من أى صفقة، يُبهتون من تبخر الصورة النمطية فى أذهانهم للصعيدى الساذج.

 

هنا تختلط نسمات الصعيد بأنفاس القاهرة وزحامها، اختلاط ود القرابة بخلافات التجارة، يتآلف الجميع بصلات الدم أو النسب أو ظل سماء المحافظة الأم، يمتلكون لغتهم الخاصة كلمات غامضة مبهمة تتطاير بينهم، يقف المشترى حيالها كالأطرش فى الزفة مبهوتا لا يفهم شيئا من قاموس مفردات العتبة الخاص (يافتة.. حاتى.. نقصان.. الدِفش.. قطمان.. حَزى يافت).

 

هنا سيدة تحمل طفلها الصغير على كتفها فى رحلة موسمية ارتبطت فى ذهن صغيرها بالعيد، تلف خلالها وتدور حتى تجد بغيتها فى بنطلون أو قميص بسعر يُرضيها ولا يرضى به البائع غالبا، فتبدأ المساومات والحلف بالأيمان المغلظة، يُقسم هو أن البيعة خسرانة إذا تمت بالثمن الذى تريده السيدة، وتحلف هى مائة يمين أنها رأت نفس البضاعة فى مكان آخر أقل ثمنا.


بعد شد وجذب وعلى أثر تمسك المرأة بما تريد تنفر عروق الغضب فى وجه البائع فيصرخ: "روحى اشتريها من هناك".


تتراجع السيدة فى لهجتها قليلا وتضفى بعضا من الدلال على عباراتها رقة أنثوية لا تتماشى مع غضبة الرجل، لكنها تتناسب مع رغبتها هى فى عودة مفاوضات الشراء، فتفتح نافذة المساومة من جديد محاولةً أن  تطفئ غضبه: أنا عايزة اشترى منك مادام وقفت وفاصلت إنت أولى من الغريب. وكأن الفصال والمناهدة أقامت بينها وبين البائع صلة قربى، تهدأ النفوس وتتفق العقول على الثمن، يفرح الطفل بكساء العيد الجديد، وتزهو الأم بقدرتها على الفصال، ويضحك البائع فى سره بعدما باع بالثمن الذى حدده لبضاعته سلفا سرا فى نفسه، بينما كل طرف يُشهِد السماء جهرا أنه مظلوم وأن الطرف الآخر جاء عليه.

هنا العتبة.. حيث يقضى "أطلس" ابن الآلهة عقوبته الأبدية حاملا السماء على كتفيه، يقف مُنحنى الظهر إثر حمله الثقيل أعلى عمارة تيرنيج المبنى الأشهر فى العتبة، فحسب الأسطورة الإغريقية خاض "زيوس" كبير آلهة الأوليمب حربا شرسة ضد الآلهة القدماء وبعد انتصاره عليهم أمر بسجنهم فى أعماق الأرض حتى لا يعاودون الحرب ضده من جديد، واختار زيوس عقابا لأطلس يضمن به خضوع الأخير له دائما، فأمره بحمل السماء على كتفيه للأبد.
 

مع بدايات القرن العشرين فكر فيكتور تيرينج  واحد من أشهر التجار وقتها إنشاء متجر للسلع المتعددة - ما يعرف بالمول التجارى الأن- فى قلب القاهرة، وكلف المهندس أوسكار هورويتز بتصميم المبنى، فقدم  "هورويتز" مبنى فخم بطراز معمارى مميز، واختار تمثال أطلس حاملا القبة السماوية ليزين بهما قمة المبنى، وربما لثقل سماء القاهرة المُحملة بصخب العتبة وضجيجها، استنسخ " هورويتز" أربعة تماثيل يتعاونون فى حملها، لتصبح عمارة تيرينج أكبر مركز تجارى فى قلب القاهرة تم افتتاحها عام 1913  وخلد "تيرينج" اسمه على واجهتها بحروف لاتينية فاحتفظت باسمه صاحبها الأول حتى الأن، وبالرغم من الطراز المعمارى المميز للعمارة إلا أنها تعانى من إهمال شديد يكاد يودى بدُرة العتبة المعمارية.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة