حركة الناس والسيارات فى شوارع القاهرة، تجسد خطابًا ذو خصوصية متميزة بكل المعايير. خطاب بالغ التنوع والتفرد والتعقيد، فهو لا يتشابه مع أى خطاب فى أى مدينة أخرى من مدن العرب أو العجم. خطاب يعكس حال المجتمع والناس فى مصر والعلاقات التى تربط بينهم ماديًا ورمزيًا من ناحية، وتربطهم بالسلطة من ناحية أخرى. كما يعكس الكثير من مكونات ثقافة المجتمع المصرى، وما طرأ عليها من تغيرات بفعل ضغوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وخطاب حركة الشارع فى القاهرة، الناس والمركبات بأنواعها، مثل أى خطاب له بنية ومكونات وتحولات، وبعض تلك المكونات قديمة وموروثة وبعضها حديث، ولعل أهم مكونات هذا الخطاب هى:
أولًا: ضجيج متواصل: فى شوارع القاهرة خليط عجيب وغريب من الأصوات، استحقت به المحروسة أن تكون واحدة من أكثر عواصم العالم صخبًا وضجيجًا، مع مرور كل سيارة يضاف نوع جديد من الضجيج والتلوث بحسب عمر ونوع السيارة ومدى تهالكها، ومن المعتاد أن تجد سيارات مضى على تصنيعها أكثر من نصف قرن تسير إلى جانب سيارات حديثة آخر موديل. وهذا المشهد يعكس درجة عالية من التفاوت الاجتماعى بين أصحاب السيارات ويؤكد فى الوقت ذاته إمكانية العيش المشترك بين أفراد وشرائح اجتماعية متفاوتة، بل يبدو أحيانًا صراعهم على أولوية السير أو الاستيلاء المؤقت على مساحة من الشارع ليصف سيارته، كأحد مظاهر المساواة بين أفراد مختلفين طبقيًا وثقافيًا إلى أبعد الحدود.
ثانيًا: كرنفال من المركبات: شوارع القاهرة هى بحق فضاء ثرى وبالغ التعقيد لعشرات الأنواع من المركبات. سيارات خاصة، حافلات فاخرة وشعبية للنقل الجماعى، أتوبيسات النقل العام، سيارات نقل خاصة وعامة، مركبات للشرطة، عربات كارو تتجاور مع أحدث أنواع السيارات الخاصة وأغلاها ثمنًا، دراجات نارية ودراجات هوائية، ومؤخرًا أضيف التوك توك «الراكشا الهندية». طيف لا ينتهى من الألوان والماركات والأنواع لمركبات تتحرك فى صخب وضجر، صراع وتوتر لا ينتهى ولا يصل إلى درجة الصدام أو الانفجار. عالم من المتناقضات المتجاورة والمتعايشة فى سلام، حياة عابرة أو بالأحرى تعايش عابر بطول رحلة السير فى الطريق، وتنتهى الحياة بعودة كل راكب أو سائق إلى أسرته أوعالمه الخاص.
تجاور مكانى ولا تزامن عجيب، لكنه ضمن خطاب الشارع والناس فى المحروسة. وتجاور آخر بدون مساواة أو عدالة اجتماعية.
ثالثًا: حضور مراوغ للدولة والقانون: رغم القوة التاريخية والوجود الثقيل للدولة المصرية ومؤسساتها عبر التاريخ إلا أن هذا الوجود بكل تجلياته المادية والرمزية، اتسم فى السنوات الأخيرة بطابع مراوغ شديد الغرابة. فكثير من الشوارع بلا إشارات للمرور، كما يغيب عنها أى وجود مادى أو رمزى للدولة. بينما تجد هناك حضور مكثف لرجال الشرطة والمرور فى شوارع وتقاطعات أخرى بحسب الأهمية الأمنية أو السياسية لكل شارع أو حى. وفى نفس الشارع تجد فى بعض أجزائه تسامحًا فى تطبيق قوانين المرور خاصة أماكن الانتظار، والتزامًا وتشددًا فى أجزاء أخرى. أكثر من ذلك فتطبيق قوانين المرور يختلف بحسب أشهر السنة، وبحسب بعض المناسبات كما يحدث فى شهر رمضان أو شهر ديسمبر.
أما إشارات المرور فهى لا تعمل فى أغلب التقاطعات، بل ومتوقفة فى كثير من الشوارع منذ شهور. وحتى إن عملت فإنها بلا معنى أو دلالة أو حضور، فالإشارة عندما تكون حمراء مما يعنى فى كل العالم توقف عبور السيارات تجد السيارات فى المحروسة تعبر بل وتجد ضابط أو شرطى المرور يؤشر لك بالعبور بينما الإشارة حمراء. باختصار تلغى آلية وحيادية إشارات المرور، وتدار حركة المركبات والمشاة فى التقاطعات والإشارات المهمة فى القاهرة بشكل يدوى، وباستخدام إشارة اليد لشرطى المرور أو الصافرة أو الاثنين معًا.
رابعًا، نفى المشاة: فى إطار قانون المرور الغائب والمغيب، والحضور المراوغ لسلطة الدولة فضلًا عن صراع السلطة بين المركبات فى الشوارع من الطبيعى أن نتصور حال المشاة ومدى معاناتهم. لكن الثابت أن الغلبة تكون دائمًا لثقافة الانتماء إلى فريق الراكبين ضد فريق الراجلين أو المشاة. فتنظيم الشوارع وحركة المرور فى المحروسة تنفى فريق المشاة وتتجاهل وجوده، وفى أحسن الأحوال لا تمنحه الأولوية، بل تمنح فريق الراكبين أولوية المرور، كما توفر له تسهيلات وفرص أيسر وأسهل على الحركة. فكثير من الشوارع الرئيسية ليس لها رصيف لاستخدام المشاة، وإن توافر الرصيف فإنه ضيق ومحطم ومثخن بالحفر والتكسيرات وغير ملائم للاستخدام الآمن، كما أن المركبات تحتل أقسامًا كبيرة منه علاوة على الامتدادات والتوسعات غير المشروعة للمحلات التجارية، والحضور الكثيف والعشوائى للباعة الجائلين والأكشاك والمتسولين وأطفال الشوارع.
خامسًا: حوادث مرورية آمنة: من أعجب تناقضات حركة الناس والمركبات فى شوارع المحروسة أن عدد حوادث المرور قليلة للغاية بالنسبة إلى العدد الهائل من أنواع المركبات الحديثة والمتهالكة والتى تسير بدون التزام بقوانين المرور وتستعمل طرقًا غير آمنة لكثرة ما فيها من مطبات وتعرجات وتقاطعات. وأغلب حوادث المرور التى تقع فى شوارع المحروسة هى من النوع البسيط، فلا قتلى أو جرحى إلا فيما نادر، ومعظم الإصابات تلحق بهياكل المركبات وهى أيضًا من النوع البسيط أو المتوسط، فلا تصل إلى التدمير الكلى للمركبة. باختصار نحن إزاء حوادث مرور آمنة فى عاصمة مليونية مزدحمة، ربما لأن شدة الزحام وتقادم أغلب المركبات فيها لا تسمح لكل أنواع المركبات طوال أغلب ساعات اليوم بالسير السريع.
والمفارقة أن مركبات المحروسة لا تكاد تخلو من مصحف أو صليب، كما أن سائقيها متدينون للغاية، لكنهم كافرون تمامًا بكل قوانين ونظم المرور المعمول بها فى العالم. ومع ذلك فإن نسبة الحوادث قليلة، أؤكد هنا ثانية أن الزحام هو بطل هذه المفارقة، فلولاه ربما تغير تمامًا عدد ونوعية ضحايا حوادث السير فى المحروسة، وربما أيضًا ونتيجة للزحام كفر السائقون فى المحروسة بقوانين المرور، وأصبح من الصعب أن يستعيدوا إيمانهم بها قولًا وفعلًا. لذلك أنت فى القاهرة أمام وضع فوضوى، يفتقر إلى المعيارية ويتسع لكل ممارسات خطاب الشارع بكل تناقضاته وتوافقاته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة