كيف تقدمت أمريكا وتخلفنا نحن؟ وهل بناة الولايات المتحدة الأمريكية أكثر عبقرية من بناة أقطارنا العربية؟ وماهى عوامل التقدم التى جعلت أمريكا منذ أكثر من 300 عام وهى تتقدم العالم كله اقتصاديًا وسياسيًا وعلميًا؟ الحقيقة أن هذه الأسئلة وأكثر هى التى كانت محور تفكيرى عندما ركبت الطائرة المتجهة من دولة الإمارات المتحدة إلى واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية، قادمًا من قاهرة المعز والتى كنت أطمع أن نحقق ربع ما حققته أمريكا من تقدم حقيقى فى كل المجالات، وإذا كان بعضنا وأنا منهم يختلف مع التعاطى الأمريكى لبعض قضايا المنطقة خاصة القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الأخرى، إلا أننى لا أستطيع أن أخفى إعجابى بالتقدم الأمريكى فى كل المجالات وهو ما يجعلنى أبحث فى دفاتر الكتب والأبحاث لكى أحصل على إجابة عن سؤالى الحائر كيف تقدمت أمريكا وأصبحت هى سيدة العالم فى كل الأصعدة، فربما نصل إلى أجوبة لو طبقنا بعضها على الحالة المصرية فمن الممكن أن نحقق بعض النجاحات التى حققتها واشنطن.
أعرف جيدًا أن التقدم فى إنشاء الطرق كان هو الطريق الوحيد للنهضة الأمريكية، وقد وثق المؤرخ آدم توز الإجابة عن أسئلتى الحائرة حيث ذكر فى كتابه النادر The Wages of Destruction المذهل عن التاريخ الاقتصادى للحرب العالمية الثانية، وكذلك كتابه The Deluge الذى صدر مؤخرًا والذى يتناول التاريخ الاقتصادى للحرب العالمية الأولى وعواقبها. يشكّل هذان الكتابان سويًا تاريخًا جديدًا للقرن العشرين، هو قرن السيطرة الأمريكية، الذى لم يبدأ بعد الحرب الثانية، وإنما منذ عام 1916 الذى تخطى فيه إنتاج الولايات المتحدة إنتاج الإمبراطورية البريطانية بأكملها.
وترى تلك الكتب التى نقلنا بعض ما جاء فيها لعلنا نستفيد مما جعل أمريكا تتقدم، والحقيقة أن «تورز» لا يتبع منظورًا أمريكيًا ضيق الأفق وإنما يشمل تاريخه الواسع التحولات الديمقراطية فى اليابان وتضخم الأسعار فى الدانمارك وولادة التيار اليمينى المتطرف فى الأرجنتين، بالإضافة إلى استيلاء البلاشفة على السلطة فى روسيا. يتتبع الكتابان قصة الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد منذ بدايتها حتى ذروتها، وصدر الكتاب الثانى فى عام 2014 وهو العام الذى انتهت فيه هذه الهيمنة- طبقًا لمقياس اقتصادى واحد على الأقل.
كان تحليل الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون، للحرب العالمية الأولى فى صيف عام 1916 أن بريطانيا تمتلك العالم وألمانيا تريده. أما الولايات المتحدة فكانت إمكانياتها الاقتصادية العظيمة مكبوتة قبل حرب عام 1914 بفعل نظامها السياسى غير الفعال ونظامها المالى المختل وصراعاتها العمالية والعرقية العنيفة، يقول تورز: «كانت أمريكا مثالًا للفساد المدنى وسوء الإدارة والسياسات المدفوعة بالجشع، بالإضافة إلى النمو والإنتاج والربح».
مع دخول الحرب العالمية الأولى فى عامها الثالث، والعام الأول من قصة تورز، بدأ ميزان القوى فى الميل بوضوح من ناحية أوروبا إلى ناحية أمريكا، فلم تستطِع الدول المشاركة فى الحرب تحمل تكاليفها أكثر من ذلك، ولجأت ألمانيا بعد عزلها عن التجارة العالمية إلى الحصار الدفاعى مركزة هجماتها على الأعداء الضعفاء مثل رومانيا. أما الحلفاء، وبخاصة بريطانيا، فقد جهزوا قواتهم بطلبات حربية أكثر وأكثر من الولايات المتحدة، ففى عام 1916 اشترت بريطانيا أكثر من ربع محركات أسطولها الجوى الجديد، وأكثر من نصف ذخيرتها من الرصاص وأكثر من ثلثى استهلاكها من الحبوب وكل استهلاكها من البترول تقريبًا من موردين أجانب، على رأسهم الولايات المتحدة. دفعت بريطانيا وفرنسا مقابل هذه المشتريات بإصدار المزيد والمزيد من السندات للأمريكيين بالدولار وليس بالجنيه الإسترلينى أو الفرانك، وبنهاية عام 1916 كان المستثمرون الأمريكيون قد راهنوا بمليارى دولار على فوز التحالف الدولى.
أدت كمية المشتريات المذهلة هذه إلى ما يشبه الحشد للحرب داخل الولايات المتحدة، فحولت المصانع الأمريكية خطوط إنتاجها من المدنية إلى العسكرية، وزرع المزارعون الأمريكيون الطعام والأنسجة لإطعام مقاتلى أوروبا وكسائهم، ولكن لم تكن الحكومة الأمريكية حينها ترغب فى اتخاذ قرار سياسى بالوقوف فى صف أحد الأطراف فى حرب أوروبية، وأراد الرئيس ويلسون البقاء بعيدًا عن الحرب تمامًا، وكان يفضل تحقيق السلام دون انتصار، ويخشى أن الارتباط الشديد ببريطانيا وفرنسا قد يحجم الخيارات أمام أمريكا. وغدًا نواصل البحث عن كيفية تقدم أمريكا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة