الهجوم على البرلمان لا يتوقف ولو ليوم واحد، وأهدافه متعددة ووسائله أكثر تعددا، ما بين عدم احترامه للرأى الآخر، واتهام المجلس بـ "الفوضوية" ويتغير شكل هذا الهجوم بين الحين والآخر، ولعلك تتذكر أول جلستين للبرلمان، واللتان أذيعتا على الهواء مباشرة، وكيف اقتنصهما رواد وسائل التواصل الاجتماعى للسخرية من برلمان لم يبدأ بعد، وهو الأمر الذى دفع الدكتور على عبد العال رئيس مجلس النواب بالأمر بقطع بث الجلسات.
الساخرون من البرلمان واللائمون لا يدركون بأن برلمانات الدول هى ساحة نزاع دائم واختلاف الآراء، لأن البشرية اخترعت المجالس النيابية كبديل عن الاستبداد والاقتتال، فإن ممارسات الديمقراطية أيضا كثيرا ما تشبه الاقتتال، لكنه اقتتال سلمى لمصلحة الوطن، برلمانات العالم تمتلك رصيدا مذهلا من الأمور الغريبة والعجيبة والتى هى نتاج للديمقراطية وتفتح الآراء، بل وضريبتها أحيانا.
رئيس الشيوخ الأمريكى يأمر بالقبض على الأعضاء من منازلهم لإكمال النصاب
لطالما كان اكتمال النصاب القانونى اللازم للتصويت هو سلاح الأقلية لتعطيل القوانين فى الولايات المتحدة الأمريكة، بل ويتم تعطيل النصاب فى كثير من الأحيان من أجل انتظار نائب تأخر عن وقته لاكتساب الأصوات، وفى بعض الأحيان يحتاج مجلس الشيوخ أياما لإكمال النصاب، فيحضر النواب فى مكاتبهم لكنهم يمتنعون عن دخول القاعة إلا حين يكتمل عدد الأصوات المطلوب فى صفوفهم، لكن هذا السلاح يواجه بسلاح قانونى هو الأغرب والذى لا يعرفه الكثيرون من مهاجمو البرلمان، أنه حق رئيس المجلس فى إصدار أمر بالقبض على أعضاء مجلس الشيوخ أو الكونجرس المتغيبين، وإحضارهم إلى القاعة باستخدام القوة الجبرية.
استخدم الحق عدد من المرات فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لكن واحدة من أشهر تلك الوقائع عندما استخدم رئيس مجلس الشيوخ، روبرت بيرد هذا الحق، وأمر رئيس شرطة الكونجرس الأمريكى وبالبحث عن الأعضاء المتغيبين لمجلس الشيوخ، وإحضارهم بالقوة إلى القاعة، عام 1988، وخلال ليلة الـ 23 من فبراير فى هذا الشهر، قاد الرقيب هنرى جوجينى وستة من الضباط حملة كبرى، للقبض على أعضاء الكونجرس المتغيبين، والبحث عنهم فى "المخابئ"، و"المنازل السرية" و"مقرات الحزب"، ومن بين هؤلاء الذين ألقى القبض عليهم كان السيناتور روبرت باكورد زعيم الأقلية فى مجلس الشيوخ.
الذى اقتحمت الشرطة مكتبه، وتبادلا التدافع، إلى أن تمكنت من وضع القيود فى يده، وحمل الضباط باكوود ووضع على مقعده بالقوة، ونودى عليه حاضرا، وليكتمل النصاب، فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وتنتهى جلسة استمرت فى مجلس الشيوخ لمدة 53 ساعة كاملة بسبب عدم اكتمال النصاب.
يمكنك مطالعة خبر القبض على باكورد فى أرشيف جريدة لوس أنجلوس تايم هنا:
لم تصور الواقعة على الإطلاق، لكن المشهد ظهر كاملا فى المسلسل الأمريكى الشهير "house of cards"، والذى أذيع صيف 2014، وكانت بمثابة محاكاة لتلك الواقعة التى حدثت فى شتاء عام 1988.
الأقلية بالكونجرس تجلس على أرضية القاعة وتهتف وتعلق أعمالها عشر ساعات
كثيرا ما يتهم البرلمان المصرى بـ"الفوضى"، لكن متهموه لا يعرفون واحدا من أهم أمثلة الفوضى فى الأنظمة الديمقراطية الغربية، فنواب الأقليات فى كثير من الأحيان ما يعطلون الجلسات عمدا، بل ويجلسون على أرضية القاعة ويرفضون مغادرتها، بل ويبدأون أيضا فى الهتاف إذا حاول رئيس الجلسة استكمالها.
الحوادث مثل هذه أكثر من أن تحصى، أحدها وقع فقط قبل أقل من عام، حين طالب الديمقراطيون "الأقلية" بتشريع يحد من مبيعات الأسلحة، على عكس رغبة "الأغلبية الجمهورية".
واحتل آنذاك مائة نائب قاعة المجلس حتى يستجاب لرغبتهم بتحديد موعد للتصويت على قانون يحد من بيع السلاح، رئيس الكونجرس ساعتها أمر بول رايان بقطع البث عن المجلس، فرد النواب ببث المقاطع عبر موقع "فيس بوك".
لحظة قطع البث عن الكونجرس وهتاف نواب الأقلية:
وبعد عشر ساعات من الاعتصام، دخل رئيس الكونجرس بول رايان، ونواب الجمهوريين لاستكمال الجلسات، إلا أن نواب الديمقراطيين ظلوا يهتفون، بشعارات مناهضة أبرزها "لا مشروع قانون"، "لا عطلة"، وإزاء هذا فشل بول رايان فى استئناف الجلسة، فيما حاول نواب جمهوريين جذب زملائهم الديمقراطيين من على الأرض، فيما وصف "بول رايان" الأمر بـ "الحيلة الدعائية".
الأقلية الديمقراطية فى اعتصامهم داخل الكونجرس بـ2016
مجلس العموم البريطانى قاعة من الصراخ والسخرية والضحك وأحيانا "الإهانات"
حين يقاطع نائب زميله، أو يقاطع رئيس المجلس نائبا، أو حتى إغلاق الميكروفون على آخر لتجاوز الوقت المحدد للكلام، فإن عاصفة من الانتقاد ستنهال بالطبع على البرلمان، وبالنظر إلى البرلمانات الأخرى فنجد أن ظاهرة المقاطعة تجاوزت حد ما ننتقده، بل أنها وصلت إلى الصراخ والاستهزاء والسخرية من المتحدث دوما، وهى ظاهرة لطالما عرفها البرلمان البريطانى العريق.
وفى هذا الصدد نقدم لكم واحدة من جلسات مجلس العموم البريطانى، التى مر عليها أكثر من عشرين عاما فيمكنك أن تشاهد كيف تدور النقاشات وسط الصرخات، ووسط السخرية، حتى أن رئيس مجلس العموم يقول لأحد النواب: "عليك بتغطية نفسك يا رجل، كان يجب أن أعيدك مقيدا بالسلاسل".
وهنا يمكنك أن تسمع مثلا رئيس مجلس العموم البريطانية بيتى بوزيرويد فى جلسة يحضرها رئيس الوزراء البريطانى الأسبق "جون ميجور"، تقول للأعضاء الذين يقاطعون كلمة رئيس الوزراء بلهجة مرددة وحازمة: "أنا مريضة ولقد تعبت منكم، فلتصمتوا جميعا واسمعوا لرئيس الوزراء فى صمت".
يمكنك أن تقضى وقتا ممتعا فى مشاهدة عشرات من هذه الفيديوهات على موقع يوتيوب، فهى أكثر من أن تحصى.
نواب المعارضة اليابانيين ينقضون على رئيس اللجنة التشريعية "لسرقة مشروع قانون"
اللكمات والمشاجرات، لم تخل منها قاعة من قاعات المجالس النيابية فى العالم بأكمله، ابحث فقط عن مواقع الفيديو، وستجد مئات من هذه اللقطات، واحدة من طلق اللقطات، وأكثرها طرافة حدثت فى البرلمان اليابانى، دولة العالم الأول المتقدمة والديمقراطية، فى سبتمبر عام 2015، حين قدم الحزب الحاكم مشروعات قوانين يسمح للجيش بالقتال خارج حدوده فى اللجنة التشريعية على نحو مفاجئ، نواب المعارضة، الذين يدركون أنهم أقلية فوجئوا بطرح الأمر، فما كان منهم إلا أن انتفضوا من على مقاعدهم فجأة، وأرادوا فى مشهد فكاهى وغريب سحب مشروع القانون من يد يوشيتادا كونويكى، رئيس اللجنة التشريعية.
فما كان من نواب "الأغلبية" إلا القيام بالدفاع عن رئيس لجنتهم ومحاولة إبعاد نواب المعارضة عنه وإنقاذ الرجل المسن من كتلة بشرية هائلة تحيط به، ولكن فى النهاية أقرت القوانين.
هكذا تبدو البرلمانات فى ساحات العالم الحر الديمقراطى، هى مسرح للنقاشات الجادة، والانفعالات الخطيرة، والاتهامات المتبادلة، وهذه هى ضريبة الديمقراطية والنقاش الحر، فقط عليك أن تهدأ قليلا وتعرف.. إنها الديمقراطية يا عزيزى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة