يقول الفقهاء إن «شيخنا أبو حامد الغزالى: بَلَعَ الفلاسفةَ، ولما أراد أن يتقيَّأهم ما استطاع» ويقول الحكيم «لا تجادل الأحمق فقد يخطئ الناس فى التفريق بينكما» والحكمة فى المثالين هى أن الإنسان يتأثر كثيرا بمن يخوض ضده معركة، فها هو الغزالى الذى هاجم الفلسفة والفلاسفة هجوما شديدا يقر تلامذته بأنه تأثر بهم كثيرا وهو على النقيض تماما منهم، وها هو الحكيم يقر بأن من يجادل الأحمق يضطر فى الجدال إلى استخدام نفس لغته ونفس آليات تفكيره ونفس أساليبه، ولهذا فإنى قد تناولت فى المقالين السابقين ما ينتاب العالم من ظواهر سياسية باتت أكبر من أن نشير إليها، ومن أهمها ظاهرة العودة إلى حكم الفرد والانسحاب من ميراث الديمقراطية المتأصل، لا لشىء سوى أن العالم الآن يحارب «داعش» وليس ببعيد أن نجد العالم كله قد تحول إلى داعش بين ليلة وضحاها، ويؤسفنى هنا أن أؤكد أننا نسير فى هذا السبيل بأسرع مما يتخيله الشيطان.
هنا لا أريد من أحد أن يوقف هذا المد الاستبدادى الذى اجتاح العالم، ففضلا عن أن العالم يحتاج بالفعل إلى إجراءات استثنائية لمواجهة هذا السرطان المتوحش فلن يستطيع أحد إيقاف ما رسخ فى الفكر والقلب، لكنى فحسب أريد من هذا العالم أن يعرف أن الديمقراطية لم تكن فى يوم من الأيام شرا محضا، وأنها برغم أنها أسهمت فى إنعاش هذا الإرهاب الذى استغل سماحة المدنية أقذر استغلال فإنها ضرورة سياسية غير قابلة للتفاوض، ليس لأنها أصبحت من أهم مفردات التراث الإنسانى، لكن لأنها الشىء الوحيد الذى يضمن تجديد المجتمع لأفكاره ودمائه، الشىء الوحيد القادر على ترميم الشروخ وتدعيم الأساسات وتقويم الاعوجاج، الشىء الوحيد الذى يكفينا شر الهدم والبناء من البداية، الشىء الوحيد الذى يجعل المواطن آمنا على أبنائه لأنه يعرف أن المجتمع الديمقراطى يعلى من قيمة الشفافية معتمدا على مبدأ تكافؤ الفرص، الشىء الوحيد الذى يضمن استقرارا للبحث العلمى وتطورا فى المنجز الإبداعى وتصاعدا فى الناتج الاقتصادى، الشىء الوحيد الذى يضمن للمجتمع أن يظل مجتمعا وألا يصبح غابة، وإن كان العالم الآن يغادر محطات الديمقراطية واحدة بعد واحدة فعلى الأقل عليه أن يحتفظ بطريق الرجوع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة