كتبت أول أمس، عن الكوارث والأزمات التى وقعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وكان تركيزى أكثر على الأزمات الاقتصادية، وكيف واجهت الإدارة الأمريكية تلك الكارثة، وتساءلت فى نهاية مقالى لماذا لا تستفيد مصر من طرق مواجهة الأمريكان لكل كوارثهم وأزماتهم، وكيف نجحت الإدارة الأمريكية فى وضع تدابير لمواجهة كارثة «الاثنين الأسود» الذى وافق يوم الاثنين فى 19/10 /1987، حين بلغت خسائر وول ستريت 500 مليار دولار فى ذلك اليوم، فاجتاح الأسواق رعب كارثى ، وهو المشهد الذى استند عليه العالم غورير فى دراسته الرائعة عن أمريكا، ومواجهة الأزمات، حيث يقول «غورير فى دراسته» يبقى السؤال عن نجاح هذه التدابير فى التحكم بآليات السوق وصولًا إلى تأمين حماية البورصات الأمريكية؟ والجواب يقلق الأمريكيين ويضاعف خوفهم التوقعى. فقد أعطت البورصة إشارات خطيرة متعددة. لم تتعدَ فوضى بعضها الساعات القليلة، حيث أمكن السيطرة على السوق بعدها. إلا أن يومين كاملين من الفوضى كانا كافيين لإعادة تفجير الخوف. الأول كان يوم الاثنين شبيه الأسود فى 27/10/1997 أى بعد عشر سنوات كاملة. حيث هبط مؤشر داو جونز 153 نقطة فى ذلك اليوم «مقابل 508 نقاط فى اثنين1987»، ويومها صرح مايك ماكورى باسم كلينتون بأن المؤشرات الاقتصادية الأمريكية قوية.. إلخ «ربما يتطابق مع تصريح ريجان العام 87».
أما عن محدودية الهبوط فهو يعود إلى استعداد كلينتون المعروف لاستخدام الآليات السوداء على أنواعها لحل المشاكل التى تصادفه. والثانى كان يوم الجمعة فى 14/4/2000 الذى شهد هبوطًا «انتقائيًا» فى أسهم التجارة الجديدة. حيث بدا وكأن هذا الهبوط مدروس من أجل التحكم بالأسعار والحد من ارتفاعها الوهمى «فقاعات السوق» الذى يعقبه هبوط خارج السيطرة.
ونصل إلى إحصاءات سوق التجزئة الأمريكى خلال العام 2000 لنجد أن مخاوف الفقر لدى المواطن الأمريكى لا تزال شديدة الحدة. فقد عمد هذا المواطن للامتناع عن الاستهلاك الزائد وتمسك بمدخراته خوفًا من التغيير الآتى مع الرئيس الجديد. وكان خفض سعر الفائدة على القروض الصغيرة فور انتخاب بوش بمنزلة الدعم المعنوى والتشجيع للمواطن كى يعود للاستهلاك دون الخوف على مدخراته ومن أزمة محتملة. وهذه المخاوف قد تتحول إلى كارثة فى حال نجاح أى إيحاء فى تفجيرها. وعندها تصبح المسألة شبيهة بأن يصرخ أحدهم فى دار للسينما حريق..حريق!.
دراسة «غورير» انتقلت إلى جزئية أخرى، وهى كيف نجحت الولايات المتحدة فى وراثة زعامة العالم الحر. فتقول الدراسة كانت التعددية الأمريكية مساهمة فى نسج نمط التوجه الاستراتيجى الأمريكى وتطوراته اللاحقة. وبعيدًا عن دراسة غورير فقد لاحظنا جميعًا أن عالم مثل «هنتنغتون» قال فى مقال له حمل عنوان «تآكل المصالح الأمريكية» أن الولايات المتحدة ومنذ قيامها توجه مصالحها واستراتيجيتها فى الاتجاه المضاد لأعدائها. فهى كانت تتوجه عكس القارة القديمة «أوروبا» لغاية الحرب العالمية الثانية عندما تحولت إلى معاكسة للنازية ومن ثم للشيوعية. ويتابع هنتنغتون بأنها فقدت وجهة مصالحها بعد نهاية الحرب الباردة لأنه لم يعد لديها أعداء توجه نفسها بالنسبة إليهم!. وبهذا يوضح هنتنغتون الثمن الذى تدفعه الولايات المتحدة بسبب خسارتها للعدو، وبالتالى وراثتها للعالم الحر. هذه الوراثة التى كلفت الولايات المتحدة وزر إلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان. ومعهما مشاعر الذنب وتوقع الانتقام ورهاب المحاكمة واحتمالات الانقلاب فى الأدوار الذى يجعل المواطن الأمريكى غير مقتنع بأنه يعيش فى وطن نهائى. هذه الوراثة التى بدأت التكاليف الباهظة للمحافظة عليها تتبدى أمام عيون المواطن الأمريكى مع حروب فيتنام وكوريا ومع تهديدات الحرب الباردة وغيرها من التكاليف التى ولدت عقدة فيتنام الأمريكية. ومعها رفض الأمريكيين للتضحيات البشرية بأولادهم من أجل مكاسب استراتيجية بعيدة عن الأرض الأمريكية. ولقد تجلى هذا الرفض فى حرب كوسوفو عندما أدرك كلينتون عجزه عن دفع الثمن الاستراتيجى للإنزال البرى فى كوسوفو فرفضه. والواقع أن حرب كوسوفو قد بينت الفهم الأمريكى لوراثة العالم الحر. الذى يمكن تلخيصه بالمعادلة التالية: «التفوق العسكرى الأمريكى بتضحية أوروبية لحماية مبادئ العالم الحر». ومن الواضح أن أوروبا غير موافقة على هذه المعادلة. مما يعد الأمريكيين بالاضطرار قريبًا» لتقديم التضحيات. وهو وعد يعيد تفجير الرهاب الأمريكى. خصوصًا «عندما يقترن مع تهديدات التجسس الروسى والصينى والإسرائيلى ومعهم تهديدات الإرهاب الداخلى متعدد المصادر. وهذا يبين إدراك الرئيس نيكسون لهذه المخاوف ولاحتمالات الخطر فيها إذ كتب فى مذكراته: لو سألنى مواطن أمريكى عن البلد الذى يمكنه أن يضمن له مستقبلا مستقرا لأولاده لنصحته بأستراليا!».
وعودة إلى دراسة العالم الأمريكى غورير رين عن الشخصية الأمريكية، حيث تناقش الدراسة البراغماتية الإنسانية وهل تفضى هذه المنطلقات إلى حرية العيش الإنسانى؟ فلو نحن سلمنا بأن الإنسان يصنع واقعه بنفسه فإننا سنقع فى إشكاليتين ميتافيزيقيتين، هما: أولًا- عدم كمال الواقع، وثانيًا- إطلاقية حرية الفعل الإنسانى. وشيلر يتجاهل الإجابة على هاتين الإشكاليتين ليرى أن حرية الإنسان هى أمر واقع لأنها غير محدودة بواقع ثابت «لأن العالم غير ثابت لذلك فهو يتغير ويتطور باستمرار مغيرا معه الواقع». فى المقابل نجد أن شيلر لا ينكر الحتمية لكنه يجد البينة على محدوديتها فى نتائج أبحاث الفيزياء الكوانتية، التى أثرت الفلسفة وقدمت لها أداة ثمينة لاستيعاب منهج العلم وطبيعة المعرفة. وغدًا نواصل تشريح الشخصية الأمريكية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة