بعيدا عن صخب السياسيين، وجدل الدينيين، والمحاولات الفاشلة لأعداء الوطن إقليميا ودوليا لإحباط الزيارة، زيارة البابا فرنسيس لمصر لها طعم النعمة لذلك القادم إلينا من كرسى الرسول بطرس إلى كرسى مار مرقص، البابا يختلف عن معظم الباباوات الذين جلسوا على كرسى روما طوال القرن الماضى، يتخطى دائما بيروقراطية بروتوكولات الكرادلة وخطى البطاركة وعظمة الرؤساء الدينيين، ولا تنطبق عليه الرؤية التى تنظر إليه على أنه فقط رئيس الكنيسة الكاثوليكية أكبر كنيسة فى العالم.. بل قديس معاصر شاء الله أن يعطيه صليبا ورتبة بابا.
قديس معاصر برتبة بابا، أحب السينما والموسيقى الشعبية ورقص التانجو وشجع فريق برشلونة لكرة القدم، راهب يسوعى من رهبان لاهوت التحرير السلمى المنحاز للفقراء وضد الظلم، بل وارتفعت بعض الأصوات «المرتعشة» خاصة على الفيس بوك، تلمح بمدى الخطر الذى قد يتعرض له صاحب القداسة البابا فرنسيس، إلا أننى أعتقد أن كل هؤلاء المرتعشين لا يعرفون صاحب القداسة، كراهب يسوعى ورئيس أساقفة وقديس معاصر برتبة بابا كما طوبه الفقراء واللاجئون والمهمشون فى كل أنحاء العالم ومن مختلف الأديان.
نبدأ بما لا يعرفه أحد عن هذا الرجل حينما كان رئيس أساقفة بيونس ايرس الكاردينال أنطونيو كاراكينو فى 1992، قام بأخذ مساحات شاسعة من أراضى أديرة الرهبنة اليسوعية وبنى عليها مساكن للصيادين الفقراء بالمدينة، وعاش رئيس الأساقفة مثله مثل الفقراء فى شقة متواضعة من غرفة واحدة لا تتخطى الستين مترا مربعا، وكانت تأتى ليال ينام فيها مع الصيادين ويعيش معهم حياتهم المتواضعة، فى وقت كان يعيش فيه الأساقفة بالأرجنتين فى قصور.
أيضا وبعد أن جلس على كرسى روما، وفى كل خميس عهد كان يذهب للسجون ويغسل أرجل السجناء والسجينات من سن 14 لـ21، وفعل ما لم يفعلة بابا من قبل حيث غسل فى زيارة لإحدى السجون فى خميس العهد أرجل فتاتين مسلمتين كانتا ضمن السجينات اللاتى طبق عليهن الأسقف رتبة غسل الأرجل. أبانا القادم إلينا رغم المخاطر ليتقدس اسمك، ونتبارك بزيارتك، ولو بيدى لغسلت أرجلك بدموعى وعطرتهما مثلما فعلت ساكبة الطيب، شكرا قداسة البابا على كل المعانى التى تريد تجسيدها فى تلك الزيارة.
أعتقد أن «الدواعش» وأعداء الزيارة، يدركون أهمية زيارة القديس فرنسيس لمصر أكثر من بعض الباحثين عن أدوار من الذين يعملون على «بيزنس الزيارة» سواء دينيا أو سياسيا، هذا القديس الفقير ومشروع الشهيد وشفيع المرضى والفقراء واللاجئين عاش كل تلك الخبرات فى حياته.
ولد صاحب القداسة فى العاصمة الأرجنتينية بيونس إيرس، لماريو خوسية بيرجوليو وريجينا سيفورى ماريا فى عائلة مكونة من خمسة، وهو أكبر أشقائة الأربعة، وكانت أسرة والدته قد هاجرت من إيطاليا هروبا من الفاشية لذلك ذاق الطفل معنى اللجوء ومرارته، الأمر الذى دفعه لأن يبيع سيارته ويتبرع بثمنها للاجئين، كان والده يعمل فى السكة الحديدية ووالدته ربة منزل فأدرك كل معانى الفقر وعاش نعمة الفقراء، وحينما نذر نفسه للفقر الاختيارى لم تكن هذه النعمة غريبة عليه بل استخرجها من داخله ولم يتلقاها، تلقى الفتى «خوخرجى»- جورجى تعليمه الابتدائى فى مدرسة للآباء السالزيان، ثم فى الجامعة ببيونس إيرس تخصص فى الكيمياء، وحصل على الماجستير.
انضوى على الرهبنة اليسوعية، وهى أحد أشهر الرهبانيات الكاثوليكية أسسها القديس إغناطيوس ديليولا الإسبانى عام 1534، وثبت دعائمها البابا بولس الثالث عام 1540، وشعار هذه الرهبنة «المجد لله الأعظم»، أما هدفها فنشر الكنيسة بالوعظ والتعليم أو إنجاز كل احتياجاتها الضرورية فى حينها، وقد كانت الثقافة منذ البداية النشاط الرئيس لهذه الرهبنة، فقدمت إسهامات بارزة للعلوم اللاهوتية وغير اللاهوتية على حد سواء، ومن تلك الرهبنة خرج علماء وقديسون.
فى الرهبنة اليسوعية حينما كان يبلغ 21 عاما قدم النذور الرهبانية فى 12 مارس 1960 (النذور الرهبانية الثلاثة: نذر الفقر ونذر العفة والطاعة) وأدرك مبكرا أن عفة الروح واللسان والعين تؤدى إلى تثبيت عفة الجسد، وجسد الطاعة لله.
درس العلوم اللاهوتية والفلسفة وتابع دراسته فى الأدب وعلم النفس، وسيم كاهنا فى 13 ديسمبر 1969 فكان الراهب الزاهد والكاهن المتبتل، وبعد فترة وجيزة تعرض لتجربة صحية صارع فيها المرض ثلاث سنوات، عرف فيهم الألم، على غرار معلمه المسيح على الصليب، تم بعدها استئصال إحدى رئتيه، ومن تجربة المرض إلى الرسالة، حيث عمل معلما للرهبان اليسوعيين فى إسبانيا، واختير بعدها رئيسا إقليميا للرهبنة اليسوعية بالأرجنتين منذ 22 إبريل 1973، وحتى نهاية 1979، ثم عاد إلى التدريس فى جامعة سان ميجل، حتى وصل إلى عميد المعهد اللاهوتى فى سان ميجل وفى 1986 حصل على الدكتوراه، وسيم أسقف مساعدا لرئيس أساقفة بيونس إيرس الكاردينال أنطونيو كاراكينو فى 1992 بعد اختيار البابا يوحنا بولس الثانى له، ثم رئيسا لأساقفة المدينة 1998، وهنا بدأت رحلة بورجوليو بالفقر الاختيارى والتواضع والانتصار للفقراء والعدالة الاجتماعية وكان نصيرا لرهبان لاهوت التحرير السلمى فى نضالهم ضد الظلم والديكتاتوريات فى أمريكا الجنوبية، وفى 2005 أسهم فى إحياء ذكرى الشهداء اليسوعيين الذين استشهدوا دفاعا عن أفكار لاهوت التحرير، هؤلاء الذين استشهدوا وهم يكافحون ضد الفاشيات العسكرية والتى كان يؤازرها جناح من أساقفة أمريكا اللاتينية، ومن أبرز من اغتالتهم الفاشيات العسكرية فى أمريكا الجنوبية المطران أوسكارروميرو رئيس أساقفة سان سلفادور 1978، وحينما اعتلى البابا فرنسيس كرسى البابوية أعلن تطويبه فى 2015 - مرحلة تعطى قبل إعلان القداسة- رغم أن البابا العظيم يوحنا بولس الثانى لم يكن على وفاق مع رهبان لاهوت التحرير.
أيها الأب الزاهد العالم الأقدس، مصر التى رحبت بالمسيح والعائلة المقدسة ترحب بك، وتتبارك بخطواتك وتعطيك محبتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة