بالطبع، وقبل كل ذلك فإن وجود الدولار كعملة العالم التجارية الرسمية القياسية وعملة الاحتياطى العالمى لعدد لا يستهان به من البلدان يعطى الولايات المتحدة كثيرًا من الزخم والنفوذ كمرجعية اقتصادية أساسية ووحيدة، على الرغم من محاولات الاتحاد الأوروبى لمواجهة ذلك بعملته الموحدة اليورو لكن تلك المحاولات حتى الآن ما زالت بعيدة بشكل كبير عن النجاح، هذا ما أشارت الدراسة التى قدمها الباحث هيثم قطب، حيث قال إنه فى الربع الأول من هذا العام تواجه الولايات المتحدة تباطؤاً نسبيًّا فى اقتصادها، لثلاثة أسباب رئيسية تُجمل فى قوة الدولار، مما يؤدى لإلحاق الضرر بقوة التصدير، مع انخفاض القوة التنافسية أمام الاتحاد الأوروبى واليابان، وانخفاض الأسعار، مما يعنى انخفاضًا تلقائيًّا فى السلوك الشرائى العام، تحسبًا لانخفاضات أكبر، ورفع سعر الفائدة فى البنوك، لكنها كلها عوامل مؤقتة فى غالبها، ويمكن السيطرة عليها بسهولة وليست أعراضًا مزمنة.
وحول النفوذ السياسى تقول الدراسة، على الرغم من شيوع وجهة النظر القائلة بأن نفوذ الولايات المتحدة الكبير يرجع فى معظمه لقوتها العسكرية كأقوى تسليح منظم فى العالم، لكنها ليست صحيحة بالمرة، فمنطقيًّا لن تغزو الولايات المتحدة كل دولة لا تعجبها أو تتمرد على سياستها، على الرغم من أنها فعلتها فى العراق وقبلها فى أفغانستان وفيتنام وغيرهما بشكل كلى أو محدود، وتستطيع أن تفعلها مرة أخرى، لكنها تبقى حالات محدودة واستثنائية مناطها ضعف الجبهات المواجهة مع التأييد الدولى الواسع أو الصمت والتماهى والاعتراض اللفظى على أحسن الأحوال، هذا التأييد أو الصمت هو النفوذ الحقيقى!
نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية هو شبكة معقدة جدًا من الخيوط تتبع فى تكوينها مبادئ «القوة الناعمة/ الاقتصادى/ المؤسساتية»، فمثلًا تمتلك إعلامًا هو الوحيد من نوعه فى الأرض الذى يجمع أغلب الناس لمشاهدته سواء كان إعلامًا مرئيًّا «تليفزيون/ سينما/ إنترنت» أو إعلامًا مقروءًا «صحف/ مجلات/ صناعة نشر»، مثلًا إعلام إخبارى ممثل فى الوكالة الأشهر «CNN» أو فوكس نيوز أو ABC، وإعلام مقروء كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز، الصحيفتين الأشهر فى العالم، هوليوود، شبكات المسلسلات كـNetFlix وHBO وغيرها، والكل مشترك فى العالمية، ومشاهدوهم أو قارئوهم بالملايين حول العالم، وهو الإعلام الوحيد المتوغل بهذا الشكل
هذا التوغل يتضح أكثر فى صناعة النشر «الكتب فقط»، على الرغم مما تواجهه من انحسار فيها، صناعة لا تجدها ذات حيثية اقتصادية فى أى دولة فى العالم إلا فى الولايات المتحدة، إحصائيات العام الماضى توضح أن صناعة النشر فى أمريكا بلغت 29 مليار دولار، قرابة الثلاثين مليارًا فى عام واحد، وهو رقم يمثل ميزانية بعض الدول الصغيرة.
هذا فرع من فروع القوة الناعمة يخدم الفرع الأهم والرئيسى وهو «المؤسسات الاقتصادية والسياسية» التى تتحكم فيها الولايات المتحدة، يحضرنا بالطبع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى والاثنان يشكلان معالم السياسة الاقتصادية العالمية، والاثنان تتحكم فيهما الولايات المتحدة بشكل شبه كامل، وبنك التنمية الآسيوى الذى تديره اليابان بتفاهمات دقيقة مع الولايات المتحدة بالطبع، ولذلك تحاول الصين تغيير ذلك عن طريق تغيير البنية العالمية الاقتصادية وصياغة مؤسسات جديدة.
سياسيًّا فإن الولايات المتحدة هى أحد الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن الأهم فى الأمم المتحدة ومشكل قراراتها الرئيسية، وهى أهم عضو مؤسس فى حلف شمال الأطلسى «الناتو» وتستخدمه فى فرض سيطرتها البحرية على عدد من أهم مناطق النزاع فى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، لكن الجانب الأهم لتوغلها ليس قدرتها على خلق التحالفات والتفاهمات السياسية بالترغيب أو الضغط، وإنما توغلها فى ميزانيات الدول المعنية بالعلاقات الاقتصادية المتشابكة أو المساعدات الحكومية أو المنظمات المدنية أو الكل فى بعض الحالات.
هذا الشكل من النفوذ الثلاثى يعطيها مرونة كبيرة فى الحركة والضغط على أنظمة الدول للتصرف بحسب مصلحتها الراسخة، أو استخدام أوراق دول للضغط على دول أخرى، بالطبع هى ليست بتلك القوة الخرافية وتواجه صعوبات فى سياستها الخارجية وتحديات صينية وروسية ولاتينية فى بعض الأحيان، لكنها تحديات يمكن السيطرة عليها بأقل قدر من الأضرار التى تتناسب عكسيًّا مع هذا النوع من الهيمنة وتقل بشكل مريح لأى إدارة أمريكية ديموقراطية أو يمينية محافظة هذه هى أمريكا الدولة العظمى التى استخدمت القوى الناعمة، لكى تغزو العالم وغدا نواصل طرح أسباب التفوق الأمريكى وحكاية القرون الأمريكية المقبلة.
فيما بعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تطبق على نصف اقتصاد العالم بمفردها قبل تراجع النسبة مع صعود تدريجى لأوروبا فى العقود التالية، على المستوى العسكرى كانت أحد قطبى العالم مع الاتحاد السوفيتى بحكم امتلاكهما لقوة الردع النووية مع أقوى جيشين حينها، لكن التعليم الأمريكى كان يواجه مشكلة حقيقية اتضحت بشدة فى أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضى، قبلها مر التعليم الأمريكى بقفزة مهمة عندما أصدر الكونجرس الأمريكى فى عام 1958 وفى أوج صراع الفضاء مع السوفييت أحد أهم قوانين الولايات المتحدة الأمريكية وهو «قانون الأمن القومى للتعليم»، القانون الذى بموجه يتم تخصيص ميزانية معيارية تقدر بمائتين وخمسين مليون دولار لتحسين وتطوير التعليم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة