الجميع يعلم أننى من المساندين والداعمين لكل مؤسسات الدولة، ومنها القضاة، فى أعتى معاركهم، قناعة بأن دولة المؤسسات الراسخة، دولة قوية وديمقراطية.
وإيمانا أيضا بأن أهمية دولة المؤسسات، الارتكاز على شفافية السلطة وتنظيمها وتحديدها وفق إطار معروف مسبقا، دون اللجوء إلى التكهنات أو عملية الترجل فى تحديد المسؤوليات والسلطات، والمؤسسة هى الشىء الثابت والبشر هم المتغيرون، والقانون فوق الجميع، والعدالة والمساواة هم أساس الحكم.
علاوة على أن مؤسسات الدولة مسؤولة ومنظمة لنشاطات الناس ومعاملاتهم مع بعضهم البعض، فهى الرصيد والضامن لمستقبل المواطنين، مع الإدراك الكامل بأن المؤسسات، ليست ملكية خاصة للموظفين البيروقراطيين، يتعاملون مع الناس على أنهم السادة، رغم أنهم خدام الشعب.
وبجانب هذه الأهمية، وعوامل التميز لدولة المؤسسات، فإن هناك عوامل تشل أداء المؤسسات، أبرزها البيروقراطية السيئة غير الفعّالة، الحامية للمنتفعين، والمساعدة على نشر الرشوة والابتزاز، واعتباره أمرا واقعا، وهنا تنحرف المؤسسات عن مسارها الحقيقى القائم على خدمة المواطنين، ويستوجب على السياسى، القادم على حصان الشرعية الشعبية عبر انتخابات حرة لإدارة الدولة، النظر فى تطوير مؤسسات الدولة لتصبح أكثر فاعلية لخدمة المواطنين، وترسيخ أخلاقيات جديدة، وتحديد المسؤوليات بشكل واضح وبأقل ما يمكن من التعقيدات الإدارية.
فالدولة هى صاحبة القوة العليا غير المقيدة فى المجتمع، ومن ثم فإنها تعلو فوق أية تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة، وهذه النقطة دفعت الفيلسوف الإنجليزى العبقرى صاحب النظريات السياسية والقانونية، ومفهوم العقد الاجتماعى «توماس هوبز» إلى وصف الدولة بالتنين البحرى أو الوحش الضخم.
ويقول الفيلسوف السياسى الألمانى «ماكس فيبر» أحد أبرز مؤسسى علم الاجتماع الحديث: إن الدولة تحتكر وسائل «العنف الشرعى» فى المجتمع، لامتلاكها قوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين.
وبتسليط الضوء على الدولة المصرية بأجهزتها ومؤسساتها، خاصة خلال السنوات الست الماضية التى أعقبت ثورة التفكيك والتقسيم والانحلال 25 يناير، تجد الأمر مغايرا كليا عما سبق شرحه فى السطور أعلاه، حيث تحولت المؤسسات إلى قبائل فى ارتداد سريع وصادم إلى عصور الجاهلية.
قانون القبيلة هو المسيطر، وصاحب النفوذ القوى، والباحث عن التغول الشره، والاستيلاء على أراضى وممتلكات القبائل الأخرى، ونفوذها، لتصبح هى القبيلة الأكبر والأهم، مع عدم الاعتراف أو الانصياع لأى كيان أكبر ومنها الدولة، فوجدنا قبائل المحامين والصحفيين والأطباء والقضاة والمهندسين والعمال، بجانب قبائل الألتراس والنشطاء، وغيرها من هذه الفئات، تحشد قواتها لخوض حروبا طويلة ضد الدولة، وضد بعضهم البعض، على غرار حروب «البسوس بين قبائل ذهل وتغلب» وحروب «داحس والغبراء بين قبائل عبس وذبيان»، وحرب «الفجار بين قبائل مضر وقيس».
كل قبيلة ترسم لنفسها بنفسها، خطوطا حمراء، وحدودا قانونية متغولة على حدود القبائل الأخرى، دون الوضع فى الاعتبار، الدولة، وهيمنتها وإرادتها.
وللأسف هذه المؤسسات يغيب عن ذهنها، أن قوتها مستمدة من قوة الدولة، المتحصنة بنفوذ القانون، وأن سقوط هيبة الدولة فى 25 يناير، سقطت هيبة ونفوذ معظم المؤسسات، وصارت السلطة القضائية، والتنفيذية، والتشريعية، مجرد أنقاض، لا قيمة لها.
ونحن نشاهد معركة القضاة، مع السلطة التشريعية المستمدة شرعيتها من شرعية الشعب عبر انتخابات نزيهة، ثم نقل المعركة إلى رأس الدولة، المستمدة شرعيتها أيضا من إرادة شعبية عبر انتخابات نزيهة، إنما يؤكد بما لا يدع مجالا لأى شك، أن القضاة سيخسرون المعركة، وبشكل فادح.
وأهمس فى أذن القضاة، ناصحا أمينا، على أرضية الاحترام والتوقير الشديد، أن أسباب المعركة، ليست فى صالحكم، فالتعديلات التى نالت من قانون الهيئات القضائية، عادية وليست جوهرية ولا تنال من هيبتكم، مع ضرورة الوضع فى الاعتبار حركة الشارع، وردود أفعاله، فالشعب يضج ألما من إجراءات التقاضى الطويلة، وأن القضية الواحدة تستغرق عقودا، وأن القتلة والإرهابيين الذين حصدوا أرواح الأبرياء، لم تنل منهم يد العدالة منذ 4 سنوات كاملة، ومازالت إجراءات التقاضى مستمرة ولا يعلم أحد هل يستغرق الأمر سنوات أخرى، ثم يخرج هؤلاء حاملين صكوك البراءة؟
الشارع يرى أن السادة القضاة انتفضوا من أجل مزايا خاصة، ولم ينتفضوا من أجل ثورة تشريعية حقيقية، مواكبة لتطورات الجرائم المذهلة، وتساهم فى إجراءات تقاضى سريعة، وأحكاما ناجزة ورادعة، وتضمن للمظلوم أن يحصل على حقوقه العادلة كاملة وغير منقوصة وبكرامة.
كما أهمس فى أذن قضاة مجلس الدولة، تحديدا، ناصحا أمينا، بأن إعلان الحرب ضد الدولة، فى قضية تعديلات قانون الهيئات القضائية، خاسرة جدا، خاصة أن المتابع، من رجل الشارع العادى والبسيط وقبل المثقف، وفى هذا التوقيت، سيلاحظ أن هناك تربصا بالدولة، ومحاولة قوية للحصول على المنافع والمزايا، والدليل الأحكام الصادرة لصالح القضاة بالحصول على مزايا مالية ضخمة، من عينة الحكم الذى صدر منذ أسبوعين تقريبا، الذى أعطى الحق لكل قاضى بمجلس الدولة الحصول على ما يقرب من 160 ألف جنيه سنويا مكأفأة وبأثر رجعى لمدة خمس سنوات.
وتعالوا نتفق أن الدولة حريصة كل الحرص على احترام المؤسسات، وعدم الاصطدام بها، أو المساس منها، ولكن تعالوا نعترف بأن جميع المؤسسات تحتاج إلى إصلاح حقيقى، وبيدى وليس بيد عمرو، ولكن إذا تأخرت أيدى المؤسسات فى الإصلاح، فلا تغضب إذا تدخلت يد عمرو.
الصدام، وركوب قطار العنت لدهس إرادة الدولة، ليس فى مصلحة القضاء، ولا فى مصلحة أى مؤسسة من المؤسسات الرسمية، مع الوضع فى الاعتبار، ضرورة إلقاء نظرة متفحصة وعميقة للشارع، وهل يضج عن آخره من «استشعار حرج القضاة عن نظر القضايا.. واستمرار إجراءات التقاضى عقودا من الزمن.. وبراءة إرهابيين ومجرمين مشاهير؟
نعم، نعلم أن الأمر ليس بأيدى القضاء، ولكن الأمر متعلق بالتشريعات البالية، التى تغل من أيد العدالة الناجزة، ولكن المواطن يسأل، ولماذا لم يثور القضاة على هذه التشريعات، ويقدمون التشريعات الحديثة والمتطورة والضغط على البرلمان لإقرارها؟ ولماذا التحرك وإعلان الغضب فقط عند انتقاص جزء من المنافع والمزايا؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة