زيارة كانت ليومين فقط، لكنها حملت الكثير من المعانى والإشارات والدلالات.. أتحدث هنا عن زيارة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، للقاهرة، والتى انتهت أمس، السبت، وشهدت جدول أعمال حافلًا، بدأ باستقبال الرئيس عبدالفتاح السيسى له فى قصر الاتحادية، وانتهى بقداس أقيم فى استاد الدفاع الجوى، وما بينهما كانت هناك لقاءات انتظرناها جميعًا، جمعت بابا الفاتيكان بالدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وآخر مع قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، وهى لقاءات وضعت اللبنات الأولى للحوار بين الأديان، وبين الكنيستين.
كثيرون توقفوا عند اللحظة التى كان يتحدث فيها بابا الفاتيكان فى الحفل الذى أقامه الرئيس عبدالفتاح السيسى للضيف الكبير فى فندق الماسة، حينما أبهرنا البابا فرانسيس بقدرته على الحديث الذى شد انتباهنا جميعًا، وكذلك تحدثه باللغة العربية وهو يقول لنا جميعًا إن «مصر أم الدنيا»، وإن «الدين لله والوطن للجميع»، مختتمًا بقوله «تحيا مصر». ومع أهمية الجمل الثلاث، وقيمتها حينما تخرج من شخصية لها قدرها فى العالم كله، لكننى توقفت عند أمر آخر، حينما تحدث البابا عن مصر ودورها فى المنطقة، وما ينتظره العالم من مصر فى الوقت الراهن، باعتبارها كانت ولا تزال قبلة الاستقرار والسلام فى المنطقة، ولا أبالغ إذا قلت فى العالم أيضًا.
البابا فرانسيس وهو يتحدث قال جملة فى غاية الأهمية، لأنها تعبر عن المكانة التى تحظى بها مصر فى قلب وعقل البابا، قال: «إن مصر، والتى فى زمن يوسف أنقذت الشعوب الأخرى من المجاعة «را. تك 47، 57» هى مدعوة اليوم إذًا لأن تنقذ هذه المنطقة العزيزة من مجاعة المحبة والأخوة، مدعوة لإدانة وهزيمة أى عنف وأى إرهاب، إنها مدعوة لتقديم قمح السلام لجميع القلوب الجائعة لتعايش سلمى، لعمل كريم، ولتعليم إنسانى.. إن مصر، التى فى ذات الوقت بيدٍ تبنى السلام وبالأخرى تحارب الإرهاب، مدعوة لإثبات أن الدين لله والوطن للجميع، إن دور مصر الفريد هو ضرورى، حتى نتمكن من التشديد على أن هذه المنطقة مهد الأديان الثلاثة الكبرى، بإمكانها، بل ويجب عليها، أن تنهض من ليل المحنة الطويل هذا كى تشع مجددًا قيم العدالة والأخوة العليا».
ما قاله البابا عن مصر يؤكد ما سبق أن تحدثنا به فى الماضى، بأن أى باحث عن الاستقرار والسلام فى المنطقة عليه أن يقصد البوابة المصرية، وهو أمر يزعج دولًا إقليمية، وربما عالمية لا تريد لمصر هذه المكانة، وستزداد هذه الدولة انزعاجًا حينما تسمع ما قاله البابا من قلب القاهرة، وهو ما يعيدنا إلى لب القضية التى كانت محور حديث وحوار مطول قبل أيام بين الرئيس السيسى وشباب مصر فى مؤتمر الشباب الدورى بالإسماعيلية، وهى قضية اللعب على وعى المصريين من جانب قوى خارجية، وأخرى داخلية تريد تغييب الوعى المصرى، لأن هدفهم واضح ومعروف، وهو تدمير مصر.
تدمير مصر من وجهة نظر المنزعجين من مكانتها يكون بأن يقتتل المصريون فيما بينهم، وهو ما حاولوا القيام به من خلال الدفع بجماعة كانت تعتبر نفسها دينية، لكى تحدث انقسامًا داخل المجتمع المصرى، وبالفعل استطاعت هذه الجماعة أن تصل إلى رأس السلطة فى مصر فى غفلة من الزمن، وبدأت فى تطبيق ما تم التخطيط له من جانب القوى الإقليمية والدولية التى ساعدت هذه الجماعة على الوصول إلى حكم مصر، وحينما أفاق المصريون من غفلتهم سريعًا، وأفشلوا هذا المخطط، تحول المخطط من تغييب للوعى باستخدام الشعارات الدينية، إلى تغييب بالقوة، قوة الإرهاب، وبالتوازى معها استخدام وسائط التواصل الاجتماعى فى هذه الحرب التى تستهدف عقول المصريين، وهو الخطر الذى سبق أن حذر منه الرئيس السيسى كثيرًا بعد 30 يونيو، وربما قبلها، لأنه كان يرى حجم المخاطر التى تحيط بنا.
إنه الواقع الذى نعيشه الآن، وتحدثنا عنه كثيرًا، وجاء البابا فرانسيس للقاهرة ليكشف جزءًا من أبعاده، حينما تحدث عن مكانة مصر فى المنطقة والعالم، وتحدث أيضًا عن الدور المنتظر منها لتحقيق الاستقرار والسلام، خاصة أن هناك من حاولوا التشكيك فى هذا الأمر، مدعين عن جهل- وربما عن قصد- أن هذه مبالغة لا أساس لها، فكيف لمصر الدولة المأزومة سياسيًا واقتصاديًا أن تكون منبع الاستقرار فى المنطقة، لكن جاء البابا فرانسيس ليوجه لهؤلاء ضربة قاضية، ستسبب خللًا فى توازنهم، لأنهم بنوا كل تخطيطهم على تغييب وعى المصريين، لكن جاء البابا فرانسيس ليسهم بكلماته فى إعادة جزء من الوعى والثقة أيضًا لقطاع كبير من المصريين، قطاع أكثره من المسلمين الذين توقفوا طويلًا أمام زيارة البابا وكلماته.
بخلاف ذلك، فإننى أرى أنه من المفيد العمل على بناء العلاقة بين مصر والفاتيكان على القواسم المشتركة، وربما من المناسب أن يكون فى الأولوية هى قضية القضاء نهائيًا على الإرهاب، خاصة مع إدراكنا جميعًا أن هذا الأمر يستلزم مزيدًا من التنسيق والتكاتف بين جميع القوى المحبة للسلام فى المجتمع الدولى، كما يتطلب جهدًا موحدًا لتجفيف منابعه، وقطع مصادر تمويله، سواء بالمال أو المقاتلين أو السلاح، كما قال الرئيس السيسى للبابا فرانسيس، فالقضاء على الإرهاب يحتاج إلى استراتيجية شاملة تأخذ فى اعتبارها، ليس فقط العمل العسكرى والأمنى، وإنما الجوانب التنموية والفكرية والسياسية، كذلك التى من شأنها هدم البنية التحتية للإرهاب، ومنع تجنيد عناصر جديدة للجماعات الإرهابية، وهنا يبرز دور المؤسسات الدينية الكبرى فى العالم، وعلى رأسها الفاتيكان، والأزهر الشريف، والكنيسة الأرثوذكسية، التى عليها أن تتحد، وتنتهى إلى موقف واحد يخلص العالم من آفة الإرهاب، خاصة مع إيمان قادة المؤسسات الثلاث أنه ما من عنف يمكن أن يُرتكب باسم الله، وأن الأديان كلها بريئة من الأعمال الإرهابية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة