نعود مرة أخرى إلى ماسطره المؤرخ آدم توز. فى كتابه النادر The Wages of Destruction، حيث يقول توز كانت ألمانيا فى عام 1939 دولةً أضعف وأفقر مما كانت فى 1914، وكانت تفتقد للعناصر الأساسية للحداثة مقارنةً ببريطانيا، فما بالك بالولايات المتحدة، فكانت هناك 486 ألف سيارة فقط فى ألمانيا فى 1932، وكان ربع الألمان مازالوا يعملون مزارعين حتى عام 1925.
ويضيف المؤرخ كانت رغبة هتلر اليائسة المتهورة فى الحرب تمثّل سياقًا ملائمًا لجرائم نظامه المريعة، فلم تكن إمبراطورية هتلر قادرة على تحقيق اكتفائها الغذائى، ولذا كانت خطته لغزو الاتحاد السوفييتى تعتزم قتل من 20 إلى 30 مليونًا من سكان المدن السوفييتية جوعًا بعد سرقة الغزاة لكل المواد الغذائية من أجل استخدامهم الخاص. كانت ألمانيا تفتقد للأيدى العاملة، فسلبت عمالة الشعوب المحتلة، كان العمال الأجانب يشكّلون %20 من القوة العاملة الألمانية فى عام 1944 و%30 من العاملين بالتسليح. كانت ألمانيا فى عام 1942 تمثّل رسميًا كتلة اقتصادية قوية، ولكن السلب والعبودية لا يصلحان كأسسٍ لاقتصادٍ صناعى، فانهار ناتج أوروبا المحتلة فى ظل الحكم الألمانى.
تنتهى قصة توز ببداية حقبتنا الحديثة، بنشأة نظام أوروبى جديد ليبرالى ديمقراطى تحت الحماية الأمريكية، ولكن لا شىء يدوم للأبد، فكما كان تأسيس هذا النظام بداية الهيمنة الأمريكية الاقتصادية الفريدة منذ قرن، شارفت هذه الهيمنة على التلاشى، فالصين تفعل الآن ما لم يستطِع الاتحاد السوفييتى أو ألمانيا الاستعمارية فعله، وهو التكافؤ الاقتصادى مع الولايات المتحدة. لم يتحقق هذا التكافؤ بعد، وتدل أكثر المقاييس واقعيةً أنه لن يتحقق قبل نهاية عشرينيات القرن الحالى، وربما تؤجله بعض المعيقات فى الاقتصاد الصينى أو تسارع غير متوقع للازدهار الأمريكى، ولكنه آتٍ، وعندما يحدث ذلك ستكون أسس سياسات القوة العالمية على مدار المائة عام الماضية قد أزيلت.
وتحت عنوان «حروف وأفكار»، كتب الباحث العربى أحمد محمد العيسى، دراسة، بعنوان «التعليم العالى سر تفوق الولايات المتحدة الأمريكية»، أكد فيها أن الجامعات والتعليم العالى كان وراء التقدم الأمريكى، حيث يقول الباحث، «لا أعتقد أن أحدًا سيجادل فى تفوق الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا العصر ليس فى المجال السياسى والاقتصادى والعسكرى فحسب، بل أيضًا على المستوى العلمى والتقنى والثقافى. فالولايات المتحدة بقيت القوة الوحيدة فى الساحة السياسية والعسكرية الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفييتى، أما فى المجال الاقتصادى فعلى الرغم من وجود منافسين لها وبخاصة الاتحاد الأوروبى واليابان، إلا أنها لا تزال تتحكم فى مفاصل الاقتصاد الدولى وتستحوذ لوحدها على أكثر من 52٪ من الناتج العالمى. أما فى المجالات العلمية والتقنية والثقافية فالعلماء الأمريكيون هم الأكثر استحواذًا على جائزة نوبل فى الخمسين عامًا الماضية، والشركات الأمريكية فى تقنية الحاسب والمعلومات مثل مايكروسوفت وانتل وسيمسكو تسيطر على أكثر من %09 من سوق تقنيات الحاسب والمعلومات فى العالم بأسره. بل وقبل ذلك لم يكن اختراع الحاسب الآلى وشبكة الإنترنت والأقمار الصناعية والتقنيات الدقيقة سوى من مبتكرات العقول الأمريكية، ثم تلقفتها الدول الأخرى بالاستهلاك أو التصنيع والانتشار.
ولكن ما هو سر هذا التفوق الأمريكى؟ حقيقة إن عوامل النهضة والتقدم والازدهار العلمى والحضارى لا يمكن حصرها فى عامل واحد أو عاملين اثنين أو ثلاثة، بل هى مجموعة عوامل تتضافر جميعها لتحقيق النمو والنهضة والازدهار، ولكن كل العوامل لا يمكن حصرها فى مقال مختصر فى جريدة يومية، بل هى تحتاج إلى دراسات تاريخية معمقة يتوفر فيها الموضوعية والمنهج العلمى والرغبة فى المعرفة والاستفادة. لقد نشأت الولايات المتحدة كدولة–كما هو معروف–بعد صراع مرير بين المهاجرين من أوروبا والسكان الأصليين وتأسست فى دولة واحدة لها دستور واحد واستقلت عن بريطانيا رسميًا عام 6771م، ثم خاضت صراعات داخلية من أهمها الحرب الأهلية التى نشأت بين ولايات الشمال وولايات الجنوب. ولكن النهضة الحقيقية جاءت بعد ذلك نتيجة الاهتمام بالتعليم منذ مراحل مبكرة، ولم يكن الاهتمام فقط بالتعليم الأساسى بل وبشكل خاص بالتعليم العالى.
ويرى الباحث العيسى، أن أمريكا أنشأت الكليات والمعاهد العليا منذ تاريخ مبكر لم تشهدها دولة أخرى بمثل هذا الاهتمام، فجامعة هارفارد-على سبيل المثال–أول جامعة أمريكية أنشئت عام 1636م، وجامعة بيل أنشئت عام 1071م، وكلية دارتموث 1769م، وجميع هذه الكليات أنشئت قبل الاستقلال وكانت كليات أهلية أنشئت بمبادرات من أفراد ومؤسسات خيرية، والتى أصبحت سمة حضارية بارزة فى مسيرة التعليم العالى فى الولايات المتحدة. وغدًا نواصل.