فى سوريا جاوز عدد القتلى الموثقين رسمياً أكثر من ثلث مليون، ونصف هؤلاء تركوا أيتاماً، ومن الثوار فقط تم توثيق أكثر من 127 ألف قتيل، ومعظمهم تركوا أيتاماً، أما جمعية الشام للأيتام فلديها 62 ألف يتيما، وهذا بخلاف الأيتام الذين يعيشون فى بلاد أخرى، هذه إحصائيات 2015 فقط، أما الأعوام التى تلتها فقد تضاعف فيها العدد، أما عدد القتلى فى ليبيا منذ اندلاع الثورة وحتى اليوم فجاوز 50 ألفاً ونصفهم ترك أيتاماً. وفى العراق جاوز عدد القتلى نصف مليون منذ الغزو العراقى وحتى الآن، فضلاً على القتلى الذين قدموا من بلاد بعيدة بعد نشأة «داعش» وأخواتها، هذا فضلاً عن جبهة اليمن التى فتحت باباً جديداً للموت واليتم، ناهيك عن مصر التى فتح الموت فيها أفرعاً جديدة منذ بداية ثورتى 25 يناير و30 يونيو وخلف وراءه أيتاما وأحزانا وآلاما.
وهكذا امتلأت بلادنا نحن العرب بالأحزان والصراعات والقتلى والأيتام، فما أكثر اليتم فى بلادنا، وما أشق الحياة وما أقساها على اليتيم، الذى يكابد مشقة الحياة وصعوباتها وأزماتها وتقلبها وعسرها وجفاءها وغلظتها بعد رفقها وتلطفها.
اليتم فى بلاد العرب مركب ومعقد ومأساوى، واليتيم فى بلاد العرب لا يعانى فقدان الأب أو الأم فقط، ولكنه يعانى من فقد الوطن والسكن والأمان والمأوى الكريم. اليتيم فى البلاد الأخرى قد يعيش فى ملجأ للأيتام فى وطنه أو عند عمه، ولكن أيتام العرب مشردون فى الخيام أو على الحدود يطاردون ويطردون من بلد إلى آخر، يعيشون أحياناً تحت قصف الطائرات والمدفعية، وإن لم يكن فتحت قصف الثلج والبرد، أو تحت حر الشمس المحرقة، أو يموت بعضهم على الشواطئ مع أسرته مثل إيلان السورى، بلاد العرب أضافت شيوع اليتم إلى الاستبداد والديكتاتورية والتخلف والجهل والمرض والفقر.
العرب هم سبب مأساة العرب حكاماً ومحكومين، يحارب بعضهم بعضا، وييتم بعضهم أولاد الآخرين، ويرمل نساءهم، يتبادلون القصف النيرانى وشتائم الإعلاميين، فى الوقت الذى لم يتبادلوا فيه يوماً الاقتصاد أو الصناعة أو الحضارة. بالبؤس اليتيم العربى محاصر فى وطنه، إن كان شيعياً طارده السنة، وإن كان سنياً قتله الشيعة، وإن كان سورياً لفظته بلاد العرب، وملته وطردته أوروبا، أو قتلته داعش أو روسيا أو النظام السورى، ياويل العرب من العرب، بأسهم بينهم شديد، يستعين بعضهم بالغرب والشرق لجلب مزيد من اليتامى والأرامل والثكالى إلى أوطانهم. فإذا تأمل اليتيم حاله لن يجد له نصيرا ومنصفا سوى القرآن الذى منع عنه الغوائل ورد عنه المكائد وصد عنه طمع الطامعين، فما أشد حفاوة القرآن باليتيم عامة وبالنبى اليتيم خاصة، وكأنه يقول لكل الأيتام لا تحزنوا فأفضل وأشرف الخلق وأقربهم منى مكانا هو يتيم مثلكم.. والقرآن خاطبه وكل يتيم «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى».. فلولا الله الذى رفق القلوب على اليتيم ما أواه ولا كفله أحد، ولو أدركوا دفاع القرآن عنهم لجعلوه تاجاً فوق رؤوسهم ولقبلوه صباح مساءً، فقد هتف القرآن بندائه الرائع الذى زلزل البشرية كلها «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ» فهو لا يهتم بإطعام اليتيم أو ملابسه أو تعليمه فحسب.. ولكنه يهتم بنفسيته وروحه وعدم قهره أو إذلاله معنوياً ونفسياً، لقد ذم القرآن من لا يكرمه: «كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ».. وجعل إطعام اليتيم وكفالته حقاً على ذوى قرباه وأوليائه الأدنى فالأدنى «يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ».
وعلى كل يتيم أن يحتفى ويحتمى بهذه الآية العظيمة تجاه كل من يريد أن يبخسه حقه أو يأكل أمواله.. إنها الصاعقة التى تصعق آكلى أموال اليتامى «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا». إنها تفزعهم وتقرعهم عندما يتخيلون النار التى تحرق بطونهم.. والسعير الذى سيصلاهم لاعتدائهم على مال اليتيم الذى لا يستطيع الدفاع عن نفسه وماله.. فيسخر الله النار الموقدة لتدافع عنه وعن ماله.. فهم لا يأكلون المال ولكنهم يأكلون النيران التى تشوى بطونهم وجلودهم.. وتشوى أفئدتهم وضمائرهم فى الدنيا.
ما أحوج الأمة الآن لرعاية يتامى أمتنا.. وما أحوجها ليوم اليتيم.. ولنداء النبى العظيم، صلى الله عليه وسلم، وهو يخاطب الدنيا كلها فى الحديث الرائع الذى رواه البخارى الذى يسبه البعض الآن ظلماً وبهتاناًً «أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى». وقد أعجبنى قول العلامة ابن بطال شارحاً له «حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبى فى الجنة فلا منزلة فىا لآخرة أفضل من ذلك» والسر فى الحديث أن كافل اليتيم له حظ من كفالة النبى ورعايته لقومه.. فتشابها فى العمل والأجر والمآب.
وهذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينادى الدنيا كلها عبر البخارى مرتباً فقه الأولويات «الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم الذى لا يفتر وكالصائم لا يفطر». وكل الذين يرحمون الأيتام أو يسعدونهم بأى طريقة يسعدهم الله، ويذهب همهم وغمهم وقسوة قلبهم، وهذا المعنى تحدث عنه النبى، صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه رجل يشكو قسوة قلبه؟ فقال له: «أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك». وفى حديث آخر «من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات». ورحم الله الإمام على الذى كان يقول: «ارحموا الأرملة واليتيم» ويقول: «الله الله فى الأيتام.. فلا تعفو أفواههم ولا يضعن بحضرتكم».
وعلى كل يتيم أن يفرح ولا يحزن وأن يأمل ولا ييأس فقد حفل سجل العظماء الكبار بمئات اليتامى وعلى رأسهم النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، الذى عاش يتيم الأبوين، ومنهم الصحابة الزبير بن العوام وأنس بن مالك وأبو هريرة وعبدالله بن جعفر الطيار وزيد بن أرقم. ومن العلماء العظام سفيان الثورى والقاسم بن محمد بن أبى بكر والإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعى والبخارى والغزالى وابن حجر العسقلانى وابن الجوزى وجلال الدين السيوطى والأوزاعى. ومن المجاهدين والقادة العظام عبدالرحمن الداخل وطارق بن زياد وعماد الدين زنكى وبيبرس. ومن العظماء المحدثين حافظ إبراهيم وابن باز وأحمد ياسين والملك إدريس السنوسى وجمال عبدالناصر وجورج واشنطن وأبراهام لينكولن وغاندى ومانديلا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة