كان رجلًا فى منتصف الأربعينيات، حينما كنت أنا طفلًا فى العاشرة، وأبى- رحمه الله- كان لا يحب بائع فول سواه، وبرغم ابتعاده النسبى عن بيتنا، كان أبى يصرّ على أن أشترى منه الفول فى الصباح.. صغيرًا كنت، ويدى لا تصل إلى أفق مناسب ليلمحها، وهو أيضًا كان يحب أبى ويحترمه، فما أن يرانى لامحًا يدى المتطلعة، حتى يرحب بى و«يتوصى» بإضافة «كبشة» فول زيادة، بعد أن يراعى وصايا أبى: «قوله شوية زبدة من جنب القدرة».
كان «عم توفيق» مثل غالبية بائعى الفول فى المطرية، يستيقظ بعد الفجر مباشرة، يحمل همومه وعدته من أجل السعى وراء أكل العيش، ولأنه كان يجب مهنته، أو بالأصح يحب «أكل عيشه»، كان سببًا من أسباب البهجة الصباحية عند الكثير من العاملين الذين يسعون إلى «أكل عيشهم» أيضًا، لكن هذه البهجة كانت كثيرًا ما تختفى أو تتحول إلى كآبة شاملة فى يوم مرور «البلدية»، التى كانت تأخذ «عم توفيق» وفوله وأطباقه وحماره، ولا تفرج عنه إلا بعد تغريمه، وقطع عيشه لأيام، برغم أن إفطار غالبية العاملين فى الحى كان على حسابه، ويوميًا.
كنا نتعاطف مع «عم توفيق» كثيرًا، ونسبّ معه «البلدية» التى كانت «تقطع عيشه»، لكن كان علىّ أن أكبر قليلًا لأدرك أن موظفى الحى، برغم فساد بعضهم، يؤدون عملهم فحسب، وأن «عم توفيق» كان مخالفًا فعلًا، وأنه وإن كان من حقه أن يعمل، فمن حق السائر فى الطريق أن يمشى، ففى الطريق عامل يريد الذهاب إلى عمله، وفى الطريق طالب يريد الذهاب إلى امتحانه، وفى الطريق مريض يصبو إلى طبيبه، وخلاف هذا وذاك، فإن سمحت «المحليات» لكل واحد بأن يقف فى الشارع، ويبيع ما يريده، ستخسر سوق العقارات الكثير، وتخسر الدولة الكثير أيضًا، فمن يقف فى الشارع لا يدفع ضرائب، ولا يُدخل مرافق، ولا يشترك فى نظام تأمين اجتماعى، وإذا تركنا الحبل على الغارب، ستتحول الشوارع إلى فوضى، ولقد رأينا عينة مرعبة من هذه الفوضى فى شوارع وسط البلد التى احتلها الباعة، وأصبح التخلص منهم حلمًا يراود كل مصرى.. باختصار، من يقف فى الشارع هكذا يعتدى على الوطن والمواطن، مع كامل احترامى ومحبتى لـ«عم توفيق»، الذى تذكرته حينما رأيت الضجة التى صنعتها فتاتا مصر الجديدة عبر تصوير مشهد لرجال الحى وهم يؤدون واجبهم بإزالة تعديهما على الطريق.
نكمل غدًا..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة