لم تغادر ذاكرتى حجج الأستاذ الدكتور محمود الربيعى التى طرحها أمامنا نحن تلاميذه فى كلية دار العلوم عام 1983، رداً على الطالب الذى اتهمه بأنه يقوم بتدريس «الكفرة» و«الملحدين» أبناء حضارة الغرب، مثل «تشيكوف» و«وموباسان» و«غيرهم من رواد القصة القصيرة».
وكما ذكرت فى مقالى أمس، فإن الطالب الذى أرسل إليه هذا الكلام لم يكشف عن نفسه، قائلا فى الورقة التى وجدها الربيعى تحت الميكرفون الذى يحدثنا منه: «طالب يخشى ذكر اسمه خوفا من الامتحانات»، وبالرغم مما قاله «الربيعى» فور أن قرأ الورقة ليحفز الطالب على الكشف عن نفسه، إلا أن الطالب لم يفعلها.
كانت القصة كلها مجال حديثنا بعد المحاضرة ولعدة أيام، وتبارت الاجتهادات لأجل التوصل إلى، من يكون هذا الطالب الذى استثار أستاذنا؟.
بالطبع لم يكن من السهل فك هذا اللغز، فكل الجماعات التى تنتسب إلى الإسلام السياسى موجودة فى الكلية، فيها «تنظيم الجهاد» وفيها «الجماعة الإسلامية»، وفيها «جماعة الإخوان» ومعظم هؤلاء متخفون، وفيها الذين يرتدون الجلاليب القصيرة ويطلقون لحاهم، لكن إذا ذهبت الظنون إلى واحد منهم، فإن بعض الظن إثم، ولماذا لا يكون طالبا يرتدى «الجينز» مثلا، لكنه يحمل فى عقله كل سخافات الظلاميين، وسواد قلب الإرهابيين.
مرت الأيام، والدكتور محمود الربيعى ينقلنا خلالها من حالة إلى أخرى، وفى «الليسانس» علمنا كيف نحلل قصيدة الشعر بمناهج مختلفة كان من بينها «المنهج اللغوى»، وجعلنا نطبقه على قصيدة «وداع» للدكتور إبراهيم ناجى ومن بين أبياتها كونت أم كلثوم قصيدة الأطلال التى غنتها بروعة، وتخرجت من الجامعة، لكن واقعة «اتهامه بتدريس الكفرة» لم تغادرنى أبدا، وظلت محفورة فى ذاكرتى حتى كتبتها أثناء حكم جماعة الإخوان الذى شهد اشتداد الجدل حول نفس القضايا التى كانت محور حديث الربيعى لطلابه عام 1983، وكأن مرور 30 عاما لم يضيف شيئا له قيمة.
كتبت القصة فى مقالى بـ«اليوم السابع» عام 2013، وإذا بها تجعلنى على موعد مع مفاجأة أدهشتنى، ففى نفس اليوم الذى نشرت فيه مقالى تلقيت تليفونا، من شخص قدم نفسه لى، بأنه من قراء «اليوم السابع»، وممن يتابعون مقالاتى، وأنه هو الطالب صاحب الرسالة التى كتبتها إلى الدكتور محمود الربيعى، وطلب منى زيارتى فى الجريدة، والتقينا، وقال لى فيما يشبه الرجاء: «لا تندهش حين ترانى، ستجد إنسانا آخر، فأنا الآن أعمل سائقا».
بالفعل وجدته إنسانا آخر، ناقما على حكم الإخوان، ونادما أشد الندم على طريقه الذى انتهى به إلى عكس ما كان يطمح: «كنت على الأقل هبقى مدرس لغة عربية، أعلم التلاميذ، أقول لهم قولا مفيدا»، أكد ندمه على عدم اهتمامه بما قاله الدكتور الربيعى، وعلى عدم الإفصاح عن اسمه وقتها، قائلا: «ربما لو ذكرت اسمى كانت قدتغيرت أحوالى، لو حدث يمكن كانت توفرت مساحة من الحوار المباشر مع الدكتور الربيعى وغيره فأخلع من الطريق الذى سلكته ودمرنى»، وكشف لى ما فعلت السنون به وأدت إلى ما أصبح عليه، قائلا: «تركت الدراسة فى السنة الثالثة بكلية دار العلوم أى فى نفس العام الذى كتب فيه رسالته إلى الدكتور الربيعى، كان بينى وبين التخرج سنة واحدة، لكن زينوا لى الطريق، قالوا لى: أنت تعمل من أجل رسالة الإسلام فى أى مجال وفى أى مكان، وعدونى بالسفر إلى أفغانستان للجهاد ضد الروس الملاحدة الذين احتلوا البلاد، لكن لم أسافر، ودخلت هنا فى مشروعات اقتصادية وخسرت جميعها، وانتهى بى الأمر إلى سائق يكسب قوت يومه للإنفاق على أسرته.. يا ريتنى كنت سمعت كلام الدكتور الربيعى؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة