كان ذلك قبل أكثر من 4 أعوام، كانت هيلارى كلينتون تستعد مبكرا لانتخابات رئاسية، توقعتها سهلة فى ظل غياب "النجوم" داخل الحزب الجمهورى.. بخطوات واثقة اتخذت قرارها، وغادرت منصبها "وزيرة الخارجية" فى إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، دون أن تدرى أن ملفات الماضى قادرة على نسف طموحات المستقبل، وربما تؤدى فى الختام إلى الوقوف أمام القضاء.
غادرت "كلينتون" المنصب وتركت مؤسسات إدارة "أوباما" تتقلب على نيران التسريبات، وفى القلب منها مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، روبرت مولر، الذى كان يمضى أيامه الأخيرة فى موقعه، بعدما تولى زمام الأمور وأحبط تبعات زلزال 11 سبتمبر، وأجهض عديدا من الهجمات التى كانت تُعد لاستهداف الولايات المتحدة.
"سنودن" يهز عرش المؤسسات الأمنية الأمريكية
بحث روبرت مولر، المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالية، عن نهاية سعيدة لولايته التى حددها الكونجرس فى قرار تعيينه بعشرة أعوام، تأهب فى صمت لجمع ملفاته ومغادرة منصبه الحساس، دون أن يدرى أنه على موعد مع هجوم جديد، لا يعده من يسكنون كهوف جبال "تورا بورا" ويتلقون الأوامر من أسامة بن لادن، ولا يقف وراءه أتباع أبو مصعب الزرقاوى فى عراق ما بعد صدام حسين، وإنما شاب صغير يدعى إدوارد سنودن، استطاع فى غفلة من الجميع ضرب مؤسسات كانت قبل هجماته الإلكترونية ضمن قائمة الآمنين.
روبرت مولر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الأسبق
فى الوقت الذى بدأت فيه هيلارى كلينتون شق طريقها نحو "البيت الأبيض"، لخلافة باراك أوباما، كانت صراعات الديمقراطيين والجمهورين تحتدم يوما بعد يوم بفعل التسريبات وتصاعد موجاتها، فاضطر المحامى العجوز "مولر"، وجندى المارينز السابق الذى يحمل أحد أوسمة قوات مشاة البحرية الأمريكية، منذ كان شابا، إلى الاعتراف بفداحة ما أحرزه "سنودن"، إذ قال أمام الكونجرس إن ما كشفه من تفاصيل عن برامج أمريكا السرية لمراقبة اتصالات المواطنين والإنترنت "خطر"، وتعهد أمام النواب بملاحقته، ولكن دون جدوى.
رهانات هيلارى كلينتون الخاسرة.. من الإخوان إلى الانتخابات
بأعين يسكنها القلق، كانت هيلارى كلينتون تعقد لقاءاتها لاجتياز مرحلة الانتخابات التمهيدية الداخلية للحزب الديمقراطى وهى تراقب مشهد "FBI" والتسريبات المضطرب.. كانت تعلم جيدا أن فضح ما اقترفته من مؤامرات ضد كيانات ودول عديدة، كفيل بكتابة سطر النهاية فى مستقبلها السياسى، وأن كشف ما موّلته من إرهاب، ممثل فى جماعة الإخوان وتنظيم داعش، قادر على الزج بها فى السجن وليس قيادتها إلى ردهات البيت الأبيض.
كان العام 2013 يحمل كثيرا من المفاجآت الصادمة للسيدة القوية هيلارى كلينتون، والرئيس الأمريكى باراك أوباما، وفى صدارة تلك المفاجآت خسارة رئيس بدرجة عميل، آثر المصريون بإرادة حرة أن يكتبوا سطر النهاية فى ولايته المشبوهة، بعد عام واحد من الحكم، خرج ملايين المصريين فى ثورة شعبية عارمة، وتحدوا حكم جماعة الإخوان، وأطاحوا بنظام محمد مرسى من السلطة فى 30 يونيو 2013، لتكتشف "كلينتون" كيف كانت رهاناتها خاسرة، وكيف كانت تقديرات السفيرة الأمريكية لدى القاهرة فى ذلك الحين، آن باترسون، لا تعكس الواقع.
كلينتون ومرسى قبل ثورة 30 يونيو
رجل الديمقراطيين يقود "FBI" فى مرحلة حرجة بالنسبة لـ"هيلارى"
انتصف عام الأزمات المفتوحة والخسائر الفادحة فى واشنطن، وبعد شهر من خروج المصريين على الجماعة الإرهابية، وتحديدا فى 31 يوليو 2013، غادر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية العجوز "FBI" منصبه، وتسلم مهامه محام أصغر سنا، اسمه جيمس كومى، الذى منح هيلارى كلينتون فرصة لالتقاط أنفاسها، كان الشاب الجمهورى مسؤولا سابقا فى إدارة جورج بوش، إلا أنه كان معروفا فى دوائر السلطة والنخب الأمريكية بقربه من الحزب الديمقراطى وقياداته.
حاول الوافد الجديد لمكتب التحقيقات الفيدرالية جاهدا احتواء الموقف الذى كان عصيًّا على التجاهل، حتى فى الصحف والمنابر الإعلامية الموالية للديمقراطيين، فى وقت استعادت فيه "كلينتون" قدرا من الثقة والثبات، بعد الفوز بترشيح الديمقراطيين لها فى سباق البيت الأبيض، وتصدرت استطلاعات الرأى على حساب منافسها دونالد ترامب، الجمهورى القادم من خارج دوائر السياسة الأمريكية، قبل أن يعود "سنودن" ويضرب بقوة من جديد، إذ كشف موقع "ويكيليكس" عن آلاف الرسائل الإلكترونية الخاصة بالمرشحة الديمقراطية، فاضحا كواليس وأسرار مؤامرات إدارة "أوباما" على دول الشرق الأوسط.
مدير "FBI" السابق يدعم هيلارى كلينتون للنجاة من فضيحة التسريبات
بعد ضغوط متصاعدة، خرج جيمس كومى فى 28 أكتوبر من العام الماضى، معلنا إجراء تحقيق فى تسريبات البريد الإلكترونى الخاص بوزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون، كان زلزال التسريبات الجديدة عصيا على التجاهل، وكان صداه أكبر كثيرا مما هو قائم من توافق بين "كومى" والديمقراطيين.
ضربت أزمة التسريبات دوائر الحزب الديمقراطى، والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية التى كانت "كيلينتون" تعلق عليها آمالا كبيرة فى سباقها نحو البيت الأبيض، وحاول "كومى" جاهدا، رغم إعلانه فتح تحقيق فى الأزمة، إعادة التوازن للمشهد الانتخابى الذى كان يقترب من نهايته، ليتم تسريب معلومات عن وقوف قراصنة روس وراء الكشف عن رسائل "كلينتون" الحساسة، والزعم بوجود اتصالات سرية جرت بين مسؤولين من نظام الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وفريق دونالد ترامب الانتخابى، لتدبير الواقعة التى أصابت المرشحة الديمقراطية.
"أشعر بالسعادة وفقط".. بهذه الكلمات ردت هيلارى كلينتون صباح الثلاثاء 8 نوفمبر الماضى، على سؤال حول قلقها من تأثير التسريبات على فرصتها فى الفوز بالرئاسة ودخول البيت الأبيض، حاولت السياسية المخضرمة إخفاء ما يعتريها من قلق أمام الكاميرات، وأدلت بصوتها فى أحد مراكز الاقتراع بمقاطعة تشاباكوا فى نيويورك، قبل أن يقلب منافسها كل الموازين، ويحقق فوزا لم تتوقعه استطلاعات الرأى والمحللون، ولم تمتلك الصحافة وشبكات التليفزيون الأمريكية الجرأة لوضع احتمالات فوزه على لائحتها، ولو بنسبة ضئيلة، لتضع صناديق الاقتراع الجميع أمام خيارات صعبة وغير مدروسة، فتذكرت "كلينتون" كيف تعهد منافسها المنتصر بمحاكمتها على خلفية التسريبات، وأدركت أنها على مشارف النهاية.
هيلارى كلينتون يبدو عليها الحزب لدى وصولها حفل تنصيب ترامب
الديمقراطيون يحاربون "ترامب" بشائعات روسيا.. و"كومى" يساندهم
دخل دونالد ترامب البيت الأبيض حاملاً شعار حملته "أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ليتخذ القرارات تلو الأخرى، ويثير قدرا واسعا من الجدل عبر عشرات التغريدات التى يبثها بشكل متواصل من خلال "تويتر"، متحدّيا منابر الإعلام والفضائيات الأمريكية الكبرى، التى انحازت لمنافسته بشكل واضح وشبه معلن، إلا أن تعهده بمحاكمة "كلينتون" ظل معلقا.
اعترفت هيلارى كلينتون بالهزيمة، إلا أن الديمقراطيين آثروا البدء مبكرا فى الاستعداد لموقعة الانتخابات المقبلة، عبر التحريض على الاحتجاجات ضد قرارات الرئيس، وخوض المعارك داخل أروقة الكونجرس وعبر منصات الإعلام الموالية للحزب الديمقراطى، للدفع فى اتجاه تطوير التحقيقات فى الشبهات الخاصة بالاتصالات بين فريق "ترامب" ومسؤولين بالكرملين وفريق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.
حاول الديمقراطيون قلب الموازين، وتجاهل الإعلام الأمريكى تسريبات هيلارى كلينتون ليسلط الضوء بقوة على ملف اتصالات فريق "ترامب" مع الروس المزعوم، وساهم جيمس كومى ـ بحسب مراقبين ومطلعين ـ فى تسريب عديد من المعلومات، الصحيحة وغير الصحيحة، لإعلاميين وسياسيين معارضين لـ"ترامب"، لزعزعة استقرار الإدارة الأمريكية، التى طوت قبل أسابيع أيامها المائة الأولى، قبل أن يربك "ترامب" حسابات الجميع، ويصدر قرارا حصّنه بتوصية من وزير العدل، مطيحا بـ"كومى" من منصبه كمدير لمكتب التحقيقات الفيدرالية، ليضمن عدم الطعن على القرار أو وقف تنفيذه.
جيمس كومى مدير مكتب التحقيقات المقال
مصير هيلارى كلينتون بعد الإطاحة بـ"كومى".. القضاء ينتظر
أطاح دونالد ترامب برئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية، وعرقل بمناورة غير قابلة للطعن عليها بعدم الدستورية، لاستنادها إلى قرار من وزير العدل، التحقيق فى الشبهات المزعومة بإجراء اتصالات بين فريق حملته الانتخابية ومسؤولين بموسكو، التى يقف وراء إثارتها ديمقراطيون وموالون لهيلارى كلينتون وقادة حزبها، وهو ما أعاد للأذهان تهديده المدوى بمحاكمة وزيرة الخارجية السابقة، التى ربما باتت قاب قوسين أو أدنى من الوقوف فى ساحات القضاء، وربما مواجهة مصير قاس ولم يسبق أن واجهه وزير خارجية ووجه سياسى بارز، كان يقف على بُعد خطوات من البيت الأبيض.