عندما أراد المهندس البلجيكى البارون إمبان بناء مصر الجديدة بدأ بالمترو، من المنطقة التى تضم الآن دار القضاء العالى وسينما ريڤولى، وكانت موقفا مخصصا لنقل الركاب بالعربات الكارو والحنطور، وأطلق الأهالى على المترو لقب العفريت، وكان ينقل مواد البناء التى تأتى من النيل إلى الصحراء القاحلة، التى تحولت إلى أرقى أحياء القاهرة السكنية.
كلمة السر فى العمران هى الطريق، وكلما توسعت الدولة فى شق الطرق، أوجدت فرصا أفضل للحياة والبناء والتشييد، والأمثلة الواضحة هى طريق الإسكندرية الصحراوى، الذى تحول إلى جنة خضراء على جانبية، وكذلك طرق الإسماعيلية وبنى سويف، أصبحت كنوزا غالية الثمن وتحولت من رمال قاحلة إلى مناطق جذب هائلة.
هذه الأراضى هى ثروة الوطن الحقيقية والرصيد الحقيقى للأجيال القادمة، علاوة على أنها رئة واسعة، تخفف الاختناق عن القاهرة وسائر المدن المحاصرة بالبشر والعشوائيات، وتفتح الأبواب أمام إنشاء مجتمعات عمرانية جديدة، تتكامل فيها ظروف الحياة الآدمية، وتخلق فرص عمل حقيقية، والأرض ملك للدولة وحدها، فهى التى تتكبد المليارات لتمهيدها وتزويدها بالمرافق، وبالتالى ليس من حق فتوة أو صاحب نفوذ أو مغامر أن يضع يده عليها، ويستثمرها لنفسه ويحرم منها الآخرين.
لماذ غضب الرئيس غضبا غير مسبوق؟
هذا ما يفسر شدة غضب الرئيس عبد الفتاح السيسى فى قنا، غضبا غير مسبوق عندما أثيرت قضية وضع اليد على أراضى الدولة، وتشديده على إزالة التعديات فى غضون أسبوعين، وتكليف المحافظين ومديرى الأمن وقادة الجيش والرقابة الإدارية بتنفيذ الأوامر، وإعطاء الرئيس «تمام»، وهو من القرارات التى لاقت قبولا وارتياحا لدى الرأى العام، لأنها تعظم قيمة الدولة كحارس أمين على ممتلكات الشعب، وترسخ قدرتها على ردع من تسول له نفسه أخذ أشياء ليست من حقه.
حسنا فعلت القوات المسلحة منذ عدة شهور، حين حددت حزاما 2 كيلومتر شرق وغرب الطرق الجديدة التى انشأتها، وكبدتها مئات المليارات، وحماية لها من قناصة أراضى الدولة، الذين حققوا فى سنوات سابقة ثروات هائلة، ويماطلون فى سداد جزء من تكلفتها، وحولوا الأراضى المخصصة للزراعة، إلى منتجعات سكنية وسياحية، وباعوا المتر الذى لم يدفعوا فيه ملاليما، بآلاف الجنيهات، وانتفخت كروشهم حتى أوشكت على الانفجار، بينما تعانى الدولة التى تحملت كل شىء عجزا فى مواردها، ولا يضع هولاء «فص ملح» فى عيونهم ويمدوا أيديهم لبلدهم فى الشدة، لكنهم لا يشبعون ويبحثون عن مزيد من الأراضى لالتهامها.
لا يد تعلو فوق يد الدولة
قرار الرئيس بإزالة التعديات إصلاح لفساد استمر طويلا، تحت سمع وبصر وتواطؤ جهات عديدة، بعضها حكومية وبمساندة ودعم مسئولين كبارا فى انظمة سابقة، استفادوا من السلطة لجنى الثروة، وادى هذا التحالف السرطانى، إلى ضياع كثير من الحقوق وتدهور الإيرادات، ونشأت فى مصر مافيا وضع اليد والاستيلاء على أراضى الدولة، مدعومة من بعض الفاسدين فى السلطة، ومدججة بالمال والسلاح والبلطجية وقطاع الطرق.
قرار الرئيس معناه لا يد فوق يد الدولة، ولا إرادة فوق إرادتها، وأن من يرفع يده فى وجهها سيتم قطعها، وأن ثروات الوطن لعموم المصريين ولا تقتصر فقط على فئة واحدة، ويعلم كثير من المصريين القريبين من هذا الملف الشائك، أنه اقتحام جرىء لم يحدث فى تاريخ مصر، وأنه بداية حقيقية لتعود مصر للمصريين، وأن يذوق الجميع ثمار التنمية ويشعروا بها، ولا تكون حكرا على نفس الصنف الردىء من البشر، الذين يشفطون خير البلد، ولا يمدون له يد العون والمساندة.
«لو» تفتح عمل الشيطان!
ما هو الوضع «لو» لم يتدخل الرئيس بقراراته الحاسمة لإزالة التعديات على أراضى الدولة؟
الإجابة: أن الشياطين كانوا سيتكاثرون ويقوون وينتشرون، لالتهام مزيد من الأراضى، سواء المحيطة بالطرق الحديدة، أو المستصلحة والمهيأة للبناء والتشييد، ووسائلهم شيطانية ومتعددة، ويدعمهم لوبى من الفاسدين، يتحفزون لاستنساخ نفس سيناريوهات اغتصاب الأراضى فى السنوات السابقة، فلا يكاد يوجد مليادير فى مصر، وإلا جاءت ثروته عن طريق أراضى الدولة.
والإجابة: فيه حاجة غلط فى البلد، فبمجرد صدور تعليمات الرئيس، أقيمت الأفراح ونصبت زفة التصريحات، وكل مسؤول كان نائما فى العسل والخل أمس، استيقظ اليوم مثل عسكرى الدرك أبو شنبات صارخا «مين اللى هناك»، وبعضهم يغنى على طريقة «الأرض أرضنا عن أبونا وجدنا»، وستظل مصر بعافية طالما يتولى شأنها هذا الصنف من المسؤولين، فلماذا لم يستيقظوا ولم يتحركوا إلا بعد أن «أمر» الرئيس، ولماذا لم يقدموا أى «كرامة» من كرامات المسؤولين المخلصين، الذين يبادرون ويتحركون من أنفسهم، بمقتضى الأمانة المحمولة فوق أعناقهم؟.
القمح الليلة ليلة عيده يا رب تبارك وتزيده
«لا تدس سنابل القمح كى تقطف شقائق النعمان».. وشقائق النعمان زهرة برية جميلة، قيل إنها نبتت على قبر النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة، عندما داسته الفيلة بعد أن رفض تسليم نساء العرب لملك الفرس، والقمح عند المصريين حياة وبقاء، والقمح يُصنع منه «العيش» أو «الرغيف» ولدى المصريين قول شائع «عض قلبى ولا تعض رغيفى»، ومصر أكبر دولة مستهلكة للقمح على مستوى العالم، والمصرى يتصدر قائمة الأعلى استهلاكا، والصوامع التى افتتحها الرئيس فى قنا، ضمن منظومة هائلة على مستوى الجمهورية، تعيد الآدمية والكرامة للرغيف الذى أهناه، وتضمن تخزين القمح وإنتاج الخبز، بطريقة صحية نظيفة، بلا تراب أو رمال أو حشرات، وتوفر مليارات الجنيهات، وتؤمن احتياطى استراتيجى لشهور قادمة، فكل شىء يمكن تحمله إلا غياب رغيف الخبز.