سهيلة فوزى

شريط حدودى بين الحياة والموت

الجمعة، 19 مايو 2017 08:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الناس تقول إن صبارة غضة على ظهر قبر كفيلة بأن تمنع عذاب القبر.. عبد الحكيم قاسم فى رواية "خبر من طرف الآخرة".

 

يدور الحفيد بإبريق الماء على الصبارات. كل صبارة تقبع فوق شاهد عسى أن تخفف عن ساكن القبر العذاب. حقل القبور على مقربة من القرية. جده يأوى إليه أبناء العائلة الأحياء وجده الأكبر القطب هنا يأوى إليه أبناءها الموتى.

 

 لم أعرف القبور إلا بعد وفاة عمى الصغير كانت له نفس ملامح أبى، مات دون الأربعين بسنوات. عرفت به المقابر وآداب دخولها ووجوب إلقاء التحية على أهلها كما تلقى على الأحياء. سلام نلقيه على الراقدين داخل الغرف المظلمة منخفضة الأسقف، ذات الأبواب الحديدية المغلقة دون انتظار رد.
مقابر كالمنازل، لكنها من غرفة واحدة يكاد سقفها يلامس كتف الرجل البالغ. يعلو بعضها قباب دائرية أو مخروطية الشكل كأبراج الحمام. يرقد هنا جدى وأخوته وجاء عمى يؤنسهم إلى الأبد. الجدة ترقد فى غرفة أخرى منفصلة، جبٌانة نساء العائلة فى الطرف القبلى من المقابر.

 

حقل قبور عائلة أبى يحازى بيوت قرية كبيرة تبعد عن قريتهم الصغيرة قليلا. أشفقت يومها على سكان البيوت المطلة على قباب المقابر. كيف يحييون هنا بجوار الموت ؟ كيف يعمرون الشريط الحدودى الفاصل بين الموت والحياة ؟ كيف يلهو أبنائهم بلا خوف أو جزع من الموت الملاصق لهم؟ كيف يأمنون النوم ليلا دون أن يختلط موتهم المؤقت بالموت الدائم جوارهم، ألا يخشون أن يجور الموت عليهم كما جاروا بأبنيتهم على حرم القبور القابعة فى آخر القرية ، وبفضل التمدد العمرانى أصبحت ملاصقة لبيوتهم. يصبح المرء منهم مطلا من شرفته على قباب القبور ، بلا جزع أو مهابة ، بل اعتاد المشهد، جُل ما يفعله أن يقرأ لهم جميعا فاتحة كتاب واحدة .

يوم نزل أبى ضيفا على جدى وشقيقه الصغير قبل أن يتم عامه الخمسين. رقد جوارهما ثم
أغلق عليهم الباب الحديدى الصغير بقفل كبير طوقته بعناية لفافة بلاستيكية أحكمت حوله جيدا خشية أن يصيبه الصدأ. لُف بعناية كطفل حديث الولادة تخشى أمه عليه من المزق.

تبدلت نظرتى يومها إلى من كنت أراهم حمقى، لأنهم اتخذوا من الموتى جيرانا لهم. الحظ حليفهم. الموت لم يستطع أن يبعد عنهم أحبائهم إلا مقدار عدة أمتار. تمنيت لو أن لنا بيتا كهؤلاء يطل على غرفة أبى الأخيرة نأنس به ويأنس بنا.

تمنيت لو أراح جنبه للمرة الأخيرة بجانبنا هنا تحت سُحب القاهرة الغائبة خلف كُتل الهواء الفاسد، ولكن هل كان يقبل؟ أشفق عليه.  قد نؤنس وحدته بعض الوقت لكنه سيظل فى غرفته وحيدا كل الوقت. وحيدا بلا أب أو أخ أو عم.

لو أن كل حى أُلحقت به مقابر لسكانه هل تهدأ القلوب أم تظل الجراح مستعرة، فتستحيل معها الحياة ويختفى الحد الفاصل بين الموت والحياة وتفسد الدنيا على من لم يحن أجلهم بعد. ربما.
تبتلع أحشاء القاهرة كثيرين ممن عاشوا فوق أرضها، أما الغريب عنها فكل عائد إلى أرضه حيث تتعانق نهاية المرء مع بدايته.

 

كان أبى ليرفض قبور القاهرة التى لا يعرفها، يرفض هوائها الثقيل، فقبولها يعنى أن يظل وحيدا قد تؤنسه زيارتنا قليلا، لن يجاوره إلا أحدنا ربما يشفق أن يدخل أحدنا عليه محمولا بلا حول أو قوة، لن يملك وقتها إلا الرفض الصامت لضيفه الجديد .
 

اعتاد كثيرا أن يرفض صامتا تسللى إلى دولاب ملابسه فجرا، والاستيلاء على معطفه الجديد فى الشتاء، انتهز خروجى من البيت مبكرا إلى المدرسة والجميع راقدون فى نوم عميق. أسبح فى معطفه الضخم بلا أمل فى الوصول إلى بر آمن ، أحمل حقيبتى . أفر مسرعة قبل أن يضبطنى أحد. يستوقفنى الناظر على باب المدرسة ، اعتاد أن يصف التلاميذ الذين يرتدون زيا مخالفا جانبا ، ثم يتولى بنفسه استجوابهم عن عدم التزامهم بالزى المقرر. يقول بلهجة مستنكرة أن لون معطفى لا يطابق الألوان المصرح بها . فتيسيرا على أولياء الأمور فى شئون معاشهم سمحت إدارة المدرسة بعدة ألوان لمعاطف الشتاء -البنى والأسود- ثم أضافوا الكحلى وأصبح من الألوان المرحب بها فى مدرستنا الصغيرة. أما معطف أبى فلا أعرف ما لونه حتى الناظر فشل فى إعطائه مسمىً واضحا واكتفى بوصمه "مخالف".
 أجبته: إنه معطف أبى، وهو لا يحب الألوان الكئيبة التى حددتها المدرسة، وأنا لا أستطيع أن أفرض عليه ألوان الزى المدرسى.
 رد الناظر: لم أفرض الزى المدرسى على آبائكم. من حق والدك أن يرتدى ما يروق له، أما أنت فترتدى ما يروق للمدرسة، ووعدنى بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما رآنى به مجددا فى طابور الصباح، وعدته ألا يرانى به فى الطابور وبررت بوعدى، كنت أتسلل بالمعطف صباحا من البيت، ثم أخلعه قبل دخول المدرسة، وأعاود ارتدائه بعد صعود الفصل، أتجنب المرور أمام حجرة الناظر طوال اليوم الدراسى، كل التلاميذ يتجنبون المرور أمام حجرته حتى لو كانوا يرتدون الزى المدرسى فى أبهى صوره. فأهم شروط التسكع فى طرقات مدرستنا الصغيرة تجنب الناظر وحجرته.

بعد موته لم أرتد معاطفه. كبرت. لم أعد أسبح داخلهم كما اعتادت، لم أعد أشعر بالفخر أنى أرتديه بالتوازى مع أبى، لم أرتح لفكرة وراثته.
يحافظ الحفيد على طقسه. يروى صبارات الشواهد، ويشهد عبد الحكيم قاسم "إنه اليتم الذى إذا أصاب القلب لا يبرأ منه القلب بعد ذلك أبدا".










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

الشعب الاصيل

الصبارات

يعني يا سهيله كل المقال صبارات مفيش ورد أو فل.. مش كفاية صبارات عبد العال والحكومه

عدد الردود 0

بواسطة:

alaa

مقال يلامس القلب

مقال يلامس القلب

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة