أشرنا إلى ما انتهى إليه «أوزفالد شبنجلر» «وهو من أبرز المفكرين وفلاسفة التاريخ الغربيين الذين يأخذون بالنظريات الدائرية Cyclical Theories فى تفسير المراحل التى تمر بها الحضارات الإنسانية»، عن أن الحضارة الغربية تعيش الآن مرحلة احتضار، حيث انتهى، فى نظره، عمرها الافتراضى، وأن التنين الأصفر سيكون الوريث لها من بين الحضارات الإنسانية الأخرى التى ما زالت تعيش حتى تاريخنا المعاصر.
ولما كانت النظريات خاصة الدائرية منها، تجمع على أن الحضارة تكون فى طريقها للاندثار «حين يصبح الاتجاه المادى هو المسيطر على الاتجاه الفكرى والروحى والدينى وعلى السلوك الإنسانى بعامة فيها».. وحين نشاهد أن «الإغراق فى المادية المفرطة»، يكاد يكون المهيمن على ثقافة الصين «المعاصرة» فى مجالات الاقتصاد والسياسة وغيرها.. فهذا يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت نظرية شبنجلر نحو الصين بدأت تتهاوى، أم ما زال هناك ما يدعم صدقها؟!
ما نشهده الآن فى السياسات التى تتبعها الصين فى التعامل الاقتصادى والسياسى مع المجتمعات الأخرى، خاصة المجتمعات النامية والمتخلفة.. أن الهدف الرئيس الذى يحرك تعاملها مع هذه المجتمعات يتمركز«بشكل يقترب من القطع» حول عامل الربح والخسارة، دون النظر للمعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية التى تعتبر محورية فى الحفاظ على حيوية الحضارات الإنسانية.
فمن الناحية الأقتصادية، لا يخفى أن معيار الربح والخسارة هو المعيار الرئيس الذى يحكم تعامل الصين فى المجال الاقتصادى والتجارى على مستوى العالم كما ذكرنا. فالهمُّ الأول والأخير للقائمين على الاقتصاد الصينى هو تحقيق الربح بأى وسيلة، انطلاقا من اعتقادهم، على ما يبدو، بأن حيوية الحضارة وقوتها واستمرار تقدمها وهيمنتها على العالم، يكمن فى «تفوق الجانب المادى على أى مكون آخر من مكونات الحضارة»، وأن دور العامل الفكرى والروحى فى الحفاظ على حيوية الحضارة ونضارتها لا يعدو- فى نظرهم- عن كونه دوراً مساعداً إن لم يكن هامشياً!!
وحين يُواجهون بهذا الأمر يبررون سلوكهم هذا بأنهم لا يلجأون للخداع أو الكذب فى تعاملهم التجارى مع الآخرين، وحين تحاجُّهم برداءة منتج ما، يجيبونك بأن هناك العديد من النماذج لهذا المنتج، تتفاوت فى أسعارها تبعا لما تتصف به من شروط الجودة، حيث تعرض على المستورد أكثر من نموذج للمنتج الواحد، مرفق به بيان بأسعار كل منها وخصائصها، وللتاجر المشترى، بعد ذلك، حرية اختيار النموذج الذى يريده، علماً بأن ما يأتى فى آخر سلم درجات الجودة من المنتج غالباً ما لا يعيش بما يتناسب والثمن الذى يدفع مقابله.
هنا قد يقال بأن لا غبار على هذا السلوك طالما يطلع المستورد على كل ما تتصف به نماذج المنتج الذى يريده من خصائص تتعلق بالجودة خاصة من الناحيتين الصناعية والتجارية، لكنه لا يستقيم مع وجوب ما تتطلبه الحضارة من اقتران بالقيم الروحية والإنسانية التى تعد المكون الأساسى فى شرط استمرار حيويتها.
فأقل ما يقال فى هذه الحجة التى يعتقد البعض أنها تبرئ الصين من تهمة الإغراق فى المادية، أنها تشجع الفساد فى العالم، خاصة فى المجتمعات الفقيرة والنامية التى عادة ما لا تُحكِم الرقابة على جودة المنتجات المستوردة بسبب الحاجة والعوز من ناحية، وبحكم انتشار الفساد من ناحية أخرى، وهنا ينتفى المكون الأخلاقى والروحى الذى ينبغى توافره فى الحضارة الحية حتى تواصل مسيرتها، فوجود هذا المكون يرقى لمرتبة الدعامة الرئيسة التى تقوم عليها الحضارات التى يرتبط استمرارها بصلابة هذه الدعامة وقدرتها على الصمود أمام عوامل الهدم التى عادة ما تتعرض لها، إذ ليس هناك ما يوصف بحالة السكون فى عالم يحكمة التغير فى كل شىء. صحيح أن الكثير من المفكرين المعاصرين يرون أن الصين تتقدم بمعدلات سريعة نحو تبوأ المكانة الأولى فى العالم «اقتصادياً على الأقل»، خلفاً لأمريكا أو لهيمنة الحضارة الغربية على العالم على ما ذهب شبنجلر، لكن من الصحيح أيضاً أن التدقيق فى جوهر الأسباب الرئيسة وتوابعها التى تدفع الصين فى هذا الاتجاه، لا تختلف عن نظيراتها التى دفعت بالغرب وبخاصة أمريكا لتحتل المركز الأول فى العالم، حيث يمثل أقتصادها ربع الاقتصاد العالمى، كما أنها تملك أقوى قوة عسكرية تضاهى كل ما تملكه أوروبا مجتمعة.
ومن ثم فإن من المنطقى القول بأن الصين غارقة هى الأخرى فى وحل المادية المفرطة التى تعيشها الحضارة الغربية الآن التى تضعها فى مرحلة الاحتضار على ما تقول النظريات الدائرية التى أشرنا إليها، ما يجعل القول بأن الحضارة الصينية هى التى ستسود العالم بعد انهيار الحضارة الغربية مثاراً للريبة والشك.
هنا يظهر الصراع واضحاً بين النظريات التى ترى أن بإمكان الحضارة أن تستعيد نشاطها إذا ما عاد الاتجاه المثالى لسابق قوته، حيث تقوم الحضارة بتجديد نفسها على ما يقول عالم الاجتماع «سوروكين»، أو أن التقدم التكنولوجى يكون العامل الحاكم فى استعادة الحضارة لحيويتها على ما يقول «وليم أوجبرن»، وبين نظرية شبنجلر التى تقول بأن ثمة عمراً افتراضيا للحضارة الواحدة يقدر بنحو ألف عام.. وحين ينقضى هذا العمر تكون قد شارفت الحضارة على نهاية المرحلة الثالثة من مسيرتها وهى مرحلة الاحتضار حتى الفناء ولا تعود أبداً للحياة. وللحديث بقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة