ليلة ساخنة جدا، هكذا يمكن تلخيص الساعات الأخيرة من مساء الثلاثاء، وحتى ظهر اليوم الأربعاء، داخل القصر الأميرى فى العاصمة القطرية الدوحة، بدأت السخونة بنشر وكالة الأنباء القطرية الرسمية "قنا" تصريحات لأمير الدولة، تميم بن حمد، يهاجم فيها عددا من الدول العربية، ثم نشر تصريحات لوزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثانى، تشير لسحب سفراء الدوحة من 5 دول عربية، وطرد سفراء الدول الخمسة خلال 24 ساعة، وانتهت بنفى التصريحات والقرارات، والاختباء وراء ادعاءات بالقرصنة الإلكترونية على وكالة الأنباء القطرية، مع حزمة واسعة من الجهود الرسمية لتغليب الضبابية والبلبلة على إيقاع المشهد، والهروب السريع من المأزق بأى كُلفة، حتى ولو كانت تراجعا مخزيا.
بدأ الأمر بنشر وكالة الأنباء القطرية الرسمية "قنا" لتصريحات تميم بن حمد، خلال حضوره حفل تخريج الدفعة الثامنة من مجندى الخدمة الوطنية، والتى هاجم فيها عددا من الدول العربية، ونفى دعم بلاده للإرهاب، وفى الوقت ذاته أكد أن جماعة الإخوان الإرهابية فصيل سياسى وطنى، وأن حماس الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى، وحزب الله قوة مقاومة، وإيران دولة كبيرة ومؤثرة فى استقرار المنطقة وليس من الحكمة التصعيد معها، وتحدث عن علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية ومواجهة رئيسها دونالد ترامب لشبهات ومشكلات قانونية، وكون قاعدة "العديد" - أكبر قاعدة عسكرية بحرية أمريكية فى العالم - تمثل ضمانا لأمن البلاد والمنطقة، وادّعى أن بلاده تواجه حملة ظالمة من بعض الدول العربية، تلتها تصريحات منسوبة لوزير الخارجية القطرى، يؤكد فيها سحب سفراء الدوحة من مصر والسعودية والإمارات والبحرين والكويت، وانتظار مغادرة سفراء هذه الدول للدوحة خلال 24 ساعة، وبينما أبرز التليفزيون القطرى الرسمى تصريحات "تميم" فى شريطه الإخبارى، وبثتها صفحات وكالة الأنباء القطرية عبر تويتر وإنستجرام وجوجل بلس، باللغتين العربية والإنجليزية، خرج مسؤول مكتب الاتصال الحكومى، سيف بن أحمد آل ثانى، لينفى التصريحات ويدّعى أن وكالة "قنا" تعرضت للاختراق.
الموقف القطرى قابله رد فعل عربى عنيف، إذ هاجمت الصحف السعودية الدوحة وأميرها، مشيرة إلى أن تصريحاته وموقف بلاده يؤكدان استهدافه للمصالح العربية، ودوره المشبوه فى تهديد استقرار المنطقة، وهو الموقف نفسه الذى اتخذته الصحافة الإماراتية، قبل أن تقرر "أبو ظبى" حجب كل المواقع الإعلامية القطرية فى البلاد، وتقرر المملكة العربية السعودية حجب قناة الجزيرة وموقعها الإلكترونى، وعلى الجانب الآخر عملت ترسانة المواقع والمنصات الإعلامية المملوكة للإمارة الخليجية الصغيرة على الدفع فى اتجاه ترويج فكرة القرصنة واختراق الوكالة، سعيا إلى إشاعة حالة من البلبلة والضباب حول التصريحات، ووصل الأمر إلى قول موقع "هافنجتون بوست" فى نسخته العربية، المملوك لقطر ويديره وكيلها الأشهر عزمى بشارة، عضو الكنيست الإسرائيلى السابق، إن التصريحات "ملفقة"، وهو ما أكد أن أزمة كبيرة تشتعل فى كواليس الإدارة القطرية، وأن الأمر أكبر من تصريحات صادمة وتراجع مخزٍ.
قطر.. كيف تؤسس دولة دون رؤية استراتيجية واضحة؟
لم تشهد قطر منذ تأسيسها المستقل قبل 46 سنة، باستقلالها عن بريطانيا فى العام 1971، أزمة كالتى تعيشها خلال الساعات الأخيرة، فرغم تزامن تأسيسها مع مرحلة مرتبكة عربيا ودوليا، وفترة توتر وأزمات على الصعيدين الإقليمى والعالمى، عبرت الإمارة الخليجية الصغيرة حزمة المنعطفات الصعبة بشكل أكثر هدوءا مما تعانيه الآن، ربما بفضل اتزانها والتزامها بمحددات إمكاناتها ودورها ومساحتها خلال سنواتها الأولى، وأيضا بفضل دعم القوى العربية الكبرى لها، وفى مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية، وتقديرها الواعى نوعا ما وقتها لحقيقة الأوزان النسبية فى المنطقة، واتجاهات العلاقات الاستراتيجية والمصالح العربية الجامعة ودوائر الأمن القومى للمنطقة ودولها.
حالة الوعى التى امتلكتها الإمارة الصغيرة منذ تأسيسها، استندت إلى سيولة الأوضاع السياسية والاجتماعية التى شهدتها وقتها، وتضافر مع هذه الأوضاع الاعتبارات الجيوسياسية والديموغرافية المرتبطة بمحدودية المساحة وقلة عدد السكان، إضافة إلى أنها لم تكن محط أنظار الهجرات المؤقتة من المنطقة والمحيط الدولى، ولم تكن سوق عمل دولية، إذ لم تتوفر لها وقتها الثروات الطائلة التى امتلكتها فى وقت لاحق مع توالى اكتشافات النفط والغاز بكثافة، وما استتبع ذلك من توطيد علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، وتغيير دوائر ولاءتها.
الموقف القطرى السابق مثّل تغيرا كبيرا فى رؤى الدويلة الصغيرة ودوائر علاقاتها وانحيازاتها، إذ استتبعت الوفرة والارتكان إلى القطب الأكبر فى العالم، أن خرج "الجيب الخليجى" الصغير من دائرة الأمن القومى العربى، بترتيب أولويات الدوحة وفق منطق آخر، ولكن الأخطر كان الخروج النفسى والمعنوى من فكرة المحدودية الجغرافية والبشرية، لتدشن الدويلة الصغيرة مرحلة تالية من الأداء السياسى غير المتزن، إذ لا يقوم على ساقين متساويتى الطول، فبينما لم تُحدث الوفرة المالية والسير فى ركاب الولايات المتحدة الأمريكية وتبعية واشنطن بشكل كامل أى تغير حقيقى فى معادلة المنطقة ووزن قطر النسبى فيها وحيز تأثيرها فى سيناريوهاتها، ولم تُحدث الوفرة المالية أى أثر فى الإمساك بمفاتيح اللعب والحركة فى المنطقة، أو الاقتراب من غرفة ماكينات السياسة العربية بديناميكيتها الشديدة، ركبت الدوحة قطارا سريعا لتتجول على خارطة المنطقة بإيقاع لاهث، ومارست سياسات الكبار، بنفسية وفسيولوجية الصغار.
سر أزمات قطر.. دولة صغيرة وطموحات كبيرة
المدخل السابق يمثل أبرز مفاتيح الأزمة القطرية، التى يبدو أنها كانت حاضرة بنسبة ما منذ التأسيس، أو الاستقلال، فطوال الوقت كانت الإمارة الصغيرة تعانى من تنازع قوتين، أو رغبتين، تسيران عكس بعضهما، الأولى تتصل برؤية موضوعية مرتبطة بحجم الدويلة ووزنها النسبى، والثانية متصلة بأوهام الوفرة المالية والقدرة على التأثير والطموحات الفردية لأشخاص من بيت الحكم، وحالة التنازع العنيفة بين القوتين أنتجت اختلالا وشروخا عديدة فى جدران البيت الحاكم.
فى العام 1972، وبعد سنة واحدة على استقلال الإمارة، انتصرت قوة الطمع وأوهام الوفرة على قوة المحدودية المكانية والبشرية والوزن النسبى الضئيل، أو انتصرت فلسفة التوسع الأهوج الخيالى على فلسفة الضآلة الواقعية الراسخة، فنجح الشيخ خليفة بن حمد فى الانقلاب على أمير البلاد، ابن عمه الشيخ أحمد بن على آل ثانى، ليتحرك طوال 23 سنة تالية على حبل مشدود، بين توطيد حكمه والخروج بقطر من ضآلتها، وفى الوقت ذاته الاحتماء بالدائرة العربية وعدم الاصطدام بها، بقدر ما، والنقطة الأخيرة أسبغت على مواقف وسياسات "خليفة" شيئا من العقل والاتزان، وحجّمت من الطموحات الهوجاء المدعومة بالوفرة، ليتحول هو نفسه فى وقت لاحق إلى ممثل لسياسة الضآلة فى نظر ابنه، الأمير الشاب وقتها حمد بن خليفة، الذى مثّل الموجة الثانية من قوة الطرد المدفوعة بأحلام القوة والتأثير، ما قاده لتنفيذ الانقلاب الثانى فى الدويلة الصغيرة، بالإطاحة بأبيه من خلال لعبة إعلامية وظّف فيها شاشات التليفزيون وشيوخ القبائل فى العام 1995، متحركا باتجاه محطة جديدة من محطة "تعملق الأقزام".
الانقلاب الثالث.. شهوة "موزة المسند" تنتصر للابن على الزوج
المفتاح الذى تأسست عليه السياسة القطرية منذ استقلال الإمارة، أصبح وفق علاقات القوى داخل بيت الحكم، وتوالى الانقلابات، ومدونة السياسة الخارجية المشتعلة فى نفوس عائلة "آل ثانى"، الوقود الحى لبرامج الإدارة القطرية، وتجذر فى نفوس البيت الحاكم بكل بطونه، حتى تحول إلى خطأ هيكلى فى بنية الدولة، يبدو أنه لا علاج له إلا بإعادة هيكلة الدويلة الصغيرة.
ضغوط الحكم التى قوّضت تطلعات وأوهام الأب خليفة بن حمد، حدّ أن أصبح ممثلا لفلسفة الضآلة والمحدودية فى عينى ابنه "حمد"، وقادت الأخير للانقلاب على أبيه، هى المعادلة نفسها التى أعيد إنتاجها بعد أقل من عشرين سنة، فقد استجاب الأمير حمد لضرورات التحرك المتزن فى المجالين العربى والدولى، على غير هوى منه بالطبع، وتمكنت مناوشات القوى الدولية وصدامات الكبار والتطورات الدراماتيكية التى شهدتها المنطقة منذ مطلع الألفية الجديدة، فى تهذيب طموح الرجل، أو أوهامه التوسعية المستندة لوفرة مالية ورغبة نفسية فى الظهور ولعب دور مؤثر، غير مدعومة بحضور جغرافى وارتباط فاعل بمناطق الصراع ومسارح القضايا الساخنة، وهو ما كان يبدو للناظر الهادئ تغيرا واعيا فى بنية الدولة القطرية وآليات إدارتها، ولكنه فى الوقت نفسه كان يمثل اصطداما قاسيا لناظر آخر، يراقب المشهد من داخل الخيمة، أو من خلف الأبواب، ولا يرضى عن المعادلة بصورتها القائمة.
كما انقلب خليفة على ابن عمه، وانقلب حمد على أبيه، دون أن يتوفر لدى أى منهما وعى كافٍ بطبيعة الإدارة السياسية والعلاقات الدولية، وبتخيل شخصى ساذج لأنه يمكن تغيير قواعد اللةعب باستغلال الوفرة المالية وتوفر الرغبة الشخصية فى لعب دور، فعلت موزة المسند الأمر نفسه، وهى السيدة القادمة من أصول قبلية متواضعة، التى استغلت كل ما توفر لها من مكر ودهاء لتصبح السيدة الأولى، وتطيح بالزوجة السابقة وأبنائها، لصالح ظهورها فى صدارة المشهد منفردة هى وأبنائها، وبالتحديد ابنها الأكبر "تميم"، ورغم أن الطموحات الكبيرة لدى سيدة قطر "متواضعة الأصل" كان يُفترض تحققها من خلال الزوج، إلا أنها بمنطق الانتصار القوى لفلسفة التوسع على حساب فلسفة الضآلة، رأت أن "حمد" لا يملك ما يكافئ طموحها لصياغة دولة جديدة، ذات حضور أوسع، واستنفدت كل طاقتها فى دفعه لوضع قطر فى مساحة مرئية من كل الصور والمشاهد، بعلاقات اقتصادية دولية واسعة، واستثمارات ضخمة بالخارج، وشراء أصول وعقارات فى عدد من العواصم العالمية، وتدشين منصات إعلامية موالية فى مناطق حيّة كثيرة، ولكن كل هذا لم يصل لمنطقة الحلم لدى "موزة"، كانت هناك تفصيلة غائبة، ربما لم تكن تعرفها بالضبط، ولكنها رأت أن تتصدى لها وتبحث عنها وتنفذها بنفسها، وليكن ابنها "تميم" بوابتها لهذا.
تميم بن حمد.. الأمير الصغير يتمرد على "حِجر موزة"
منذ اشتعال شهوة "موزة" وضغوطها على زوجها، الأمير السابق حمد بن خليفة، مع سنوات الألفية الجديدة، وحتى صعود ابنها "تميم" لعرش الإمارة فى يونيو 2013، كانت الأمور تسير وفق وتيرة هادئة، وحتى بعد الصعود بشهور، فالأمير الصغير المولود فى العام 1980، المتزوج من سيدتين والأب لخمسة أطفال، لم يكن يملك من الخبرة السياسية والإدارية، ولا الطموح والتطلعات، ما يُقلق الأميرة الأم ويُحجّم نفوذها ويصادر على أهدافها من وراء عملية الانقلاب الناعمة التى نفذتها داخل القصر الأميرى، ظل الفتى الناشئ مرتاحا لوضع رأسه فى "حِجر الأم"، والاستجابة لإملاءاتها وتوجيهاتها، ولكن المرحلة اللاحقة شهدت تطورات درامية ربما لم تكن ضمن حسابات موزة المسند نفسها.
الأمير الصغير، الذى صعد للحكم مع اقترابه من عامه الثالث والثلاثين، بدأ فى مرحلة تالية التمرد على سلطة الأم، واتضح أن لديه استعدادا لأن يكون أكثر يمينية وتطرفا فى دعم فلسفة التوسع على حساب فلسفة الضآلة والأوزان النسبية، بأقصى مما كان الجميع يتخيلون، وعبر استشارات وزير الخارجية الأسبق حمد بن جاسم، صاحب الطموح السياسى الواسع والحليف السابق للأب وفق منطق "المؤلفة قلوبهم"، إذ كان "حمد" يعلم أن مساحة من الكراهية له تملأ صدر "ابن جاسم"، إلا أنه حافظ على بقائه فى دوائره ضمانا لاستقرار الأمر والمصادرة على غدره المتوقع، وهو ما دفع وزير الخارجية الأسبق للقصاص من أميره السابق بأثر رجعى، عبر تغذية طموح ابنه الصغير "النزق" والدفع فى اتجاه إشعال النار، ووفق هذه المشورة، والدعم العملى المباشر، تحرك الأمير الصغير لتوطيد علاقته بجماعة الإخوان الإرهابية، وبعض الجماعات والتيارات الدينية فى سوريا والعراق، وفتح قنوات اتصال عميقة وخفية مع الدوائر الاستخباراتية والأمنية فى تركيا، مع دعم حركة حماس وتسليح فصائل وميليشيات سوريا وليبيا المقاتلة، وفى الوقت نفسه توطيد علاقات الدوحة بإسرائيل وترقية نشاط مكتب التمثيل القطرى فى "تل أبيب"، سعيا إلى وضع قطر طرفا أصيلا فى كل المعادلات السياسية القائمة فى المنطقة، بغض النظر عن حسابات المكسب والخسارة، والرؤى الاستراتيجية، ودوائر الأمن القومى، وعن القدرة على المناورة ولعب كل هذه الأدوار فى وقت واحد.
الخسارة فى سوريا والعراق.. والفشل فى إدارة ملف الإخوان
المأزق الأخير الذى سقطت فيه قطر، مع بث تصريحات أميرها الصغير تميم بن حمد، وموقف الدول العربية التى طالتها هذه التصريحات، إلى جانب أنها تحمل تأكيدا لاتجاه متطرف وعديم الرؤية يقود القصر الأميرى فى الدوحة، فإنها تكشف عن أدوار قطر المشبوهة فى المنطقة خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى كشف النقطة الأخطر، وتتصل بخلل قنوات التواصل الفعال داخل القصر الأميرى، وربما انعدام دوائر المشورة السياسية الناضجة، فبين الأمير ذى السبعة والثلاثين عاما، ووزير خارجيته صاحب عدد السنوات نفسه، وبين موزة المسند وحمد بن جاسم، تصطدم الدويلة الخليجية الصغيرة بحقيقة مزعجة ومهددة لبقائها، وهى أن قدرا من المحدودية وقلة الدراية وشبهات الخداع، يحيط بدوائر السلطة العليا فى الدوحة.
الأمير الشاب لم يُخف عداءه لعدد من الدول العربية، وضمت تصريحاته وتصريحات وزير خارجيته القوتين العربيتين الأكبر، و4 دول من مجلس التعاون الخليجى، ويمكننا اعتبار الأمر حربا على المجلس بكامله، باعتبار أن التصريحات طالت كل دوله الفاعلة، ولم تترك إلا سلطنة عُمان التى تتبنى نهجا محايدا فيما يخص قضايا المنطقة وصراعاتها، والغريب أن تحركات قطر المثيرة خلال السنوات الأخيرة استفادت من دول مجلس التعاون الخليجى، الذى مثّل فى أوقات كثيرة مظلة حماية للدويلة الصغيرة من المساءلة والمحاسبة عربيا، وعلى عكس مواقف واسعة داخل الجامعة العربية، كان مجلس التعاون الخليجى يوفر الغطاء الذى تستغله الدويلة الخارجية للاستمرار فى ممارساتها المثيرة لضيق القوى العربية، حتى قادها طموحها الأهوج إلى التمرد على هذا الغطاء نفسه، والاصطدام به وتهديد مصالحه وأمنه.
إلى جانب هجوم "تميم" ووزير خارجيته على خمس دول عربية، قال مسؤولون ومحللون وإعلاميون من هذه الدول فى أوقات سابقة إن قطر تهدد أمنها ومصالحها الاستراتيجية، امتدح الأمير الصغير جماعة الإخوان الإرهابية، وحركة حماس، وحزب الله اللبنانى وإيران، فى إشارة تحمل ضمن ما تحمله من معانٍ، تأكيد الروابط والصلات القوية التى تجمعه بهذه الجهات، والغريب أن الدوحة فى الوقت نفسه تُنسق مواقفها فيما يخص سوريا والصراع الدائر فيها، مع تركيا ونظام رجب طيب أردوغان، الذى يُفترض أنه فى خصومة مباشرة مع بشار الأسد وداعميه، وأبرزهم إيران وحزب الله، ما يشير إلى أن الأمير الصغير قد انساق وراء أوهام الحضور والتأثير وفلسفة التوسع، أو "تعملق الأقزام"، ولم يعد مهتما بما يصدر عنه من إشارات تؤكد لعبه مع كل الأطراف ورقصه على كل الإيقاعات، وفى الوقت الذى يفخر فيه بوجود قاعدة "العديد" العسكرية على أرضه، يهاجم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ويؤكد توتر علاقات البلدين، وفى الوقت الذى يعادى فيه بشار الأسد والجيش الوطنى السورى، يؤكد دعمه وصداقته لحلفائه، إيران وحزب الله، ويمد أواصر العلاقة والمودة والتبعية مع أعداء الحليف، تركيا وجماعة الإخوان.
وسط هذه الموجة من الاضطرابات والتناقضات التى تضمنتها تصريحات "تميم"، لا يبدو أن البحث عن أسباب التصريحات الأخيرة وبواعثها وما يقف وراءها من سيناريوهات وصفقات مشبوهة فى كواليس الإدارة القطرية ستكون أمرا صعبا، فالدويلة الصغيرة التى دعمت الميليشيات الإسلامية المتطرفة منذ اشتعال الصراع فى سوريا قبل 6 سنوات، لم تجن ما كانت تتوقعه من مكاسب، ولم توفر لها تركيا مساحة الحضور اللامعة فى المشهد السياسى فى المنطقة، بل وتراجع أردوغان نفسه عن مواقفه السابقة واستجاب للسيناريو الروسى، فخرجت الدوحة خاسرة من سوريا، وهى الخسارة نفسها التى مُنيت بها فى العراق، بعد سنوات من دعم ميليشيات "داعش" والتنسيق معها، لينتهى الأمر باختطاف 26 قطريا من العائلة الحاكمة، كانوا فى رحلة صيد بنطاق المياه الإقليمية العراقية، واضطرارها لدفع فدية تجاوزت مليار دولار لتحريرهم، والاستجابة لضغوط وإملاءات الحكومة العراقية، مع الخروج بفضيحة دولية مدوية.
يضاف إلى الهزيمة فى سوريا والعراق، ورغبة "تميم" فى التمرد على وصاية والدته، موزة المسند، قلقه من تحركات والده، حمد بن خليفة، للإطاحة به، فالأمير السابق الذى أحس بمرارة عقب الانقلاب الناعم لإزاحته من حكم البلاد فى العام 2013، ونُقض الاتفاق معه بأن يكون صاحب اليد العليا والسلطة الروحية داخل دائرة الحكم القطرية، عاد إلى الدوحة فى 2016، بعد ثلاث سنوات قضاها خارج البلاد، بين لندن وجنيف وعواصم عالمية أخرى، انتهت برحلة علاج فى سويسرا إثر سقوطه وكسر ساقه، وبدأ مع عودته جولة اتصالات وترتيبات مع البيت الأبيض للإطاحة بتميم، وتصعيد شقيقه عبد الله أو ابنه جوعان، وإلى جانب السببين المهمين يواجه تميم أزمة داخلية تبدو مقلقة، وإن لم تظهر على السطح أو بدا أن القطريين مسالمون وليست لديهم أسئلة لحاكمهم صاحب المغامرات النزقة أو ميول ثورية ونزوع لفهم مجريات الأمور وتبعاتها، ولكن الأمير الصغير الذى ورط الدولة محدودة المساحة والسكان، وعظيمة الثراء والموارد، فى صراعات ومغامرات سياسية على أكثر من جبهة، لم يقدم للجبهة الداخلية ما يؤكد جدوى تحركاته، ويكافئ الإهدار الضخم للموارد لدرجة قادت الإمارة للمعاناة والحياة بموازنة مختلة تتضمن عجزا ماليا ضخما، جرى تمويله عبر خطة موسعة لتخفيض الأجور وسياسات تقشفية طالت كثيرا من أجهزة الدولة وما توفره من خدمات عامة، وهنا كان المخرج السهل من هذه الأزمات عبر الانحياز لموقف حاد وصدامى يكسر قيود الأم وينفى فكرة التبعية المباشرة لوصايتها، ويؤكد قدرة الأمير الشاب على الإمساك بمقاليد البلاد فى مواجهة مخططات الأب، ويقدم للشعب القطرى صيغة تبرير للنزيف المالى والسياسى الحاد، بتصدير فكرة الأزمة ومواجهة مؤامرات واستهدافات ممنهجة من أكثر من اتجاه، ما يوحى فى الوقت نفسه بأن الدولة تحقق حضورا حقيقيا وفاعلا، وتمثل ثقلا فى معادلات السياسة الدولية، والشهادة الضمنية الأكبر فى هذا الإيحاء بالطبع أن الأمير الصغير يُحسن صنعا ويدير دفة البلاد بتمكن واقتدار.
ومن الخسارة فى الساحتين السورية والعراقية، إلى الخسارة فى ساحة الصراع الليبية، التى دعمت قطر ميليشياتها الإسلامية ضد الجيش الليبى والقوى السياسية المدنية فى البلاد، ووفرت لهم الغطاء المالى والإعلامى، وتولت مهمة تنسيق خطوط الإمداد بالمقاتلين والسلاح، ولكن الأمر انتهى بغلبة الجيش الليبى وحصار الميليشيات المدعومة قطريا، ونجاح مصر والإمارات فى تثبيت أقدام مؤسسات الدولة الليبية، والوصول إلى تفاهمات مهمة بين فائز السراج والمشير خليفة حفتر، ومن هذه النقطة إلى اشتباك الدوحة مع الشأن المصرى، لم تجن الإمارة الصغيرة أية مكاسب من علاقتها بجماعة الإخوان واستضافة كوادرها على أراضيها وتمويل قنواتها ومنصاتها الإعلامية، ومع اتجاه المملكة العربية السعودية والإمارات لمحاصرة الجماعة، والاشتراك الجاد فى محاربة الإرهاب بالمنطقة، وإبداء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مؤشرات على نواياه بالمشاركة الفاعلة فى الأمر، بعيدا عن جدية هذه النوايا أو كونها مناورة، وجد الأمير الصغير نفسه فى مأزق، كل الحلفاء والوكلاء فى مناطق الصراع يتساقطون، القوى الكبرى التى يلعب تحت قدميها تقترب من بعضها، ما يُنذر بسحقه تحت الأحذية الضخمة، ولا بديل عن الهروب إلى الأمام، حتى ولو كان معناه فتح النار على الجميع، وهو ما فعله الأمير النزق، قبل أن يكتشف أن فاتورة خسارة ضخمة قد تدفعها الإمارة الصغيرة، وأن الحلفاء الخاسرين فى تركيا والعراق وسوريا لن يوفروا له ضمانة للإفلات من العقاب، والأعداء المتقاربين لن يغفروا أى تحركات طفولية مشبوهة، فكان التراجع، بينما ما زال يضع عينا فى "طهران" وأخرى فى "أنقرة"، وقدما فى واشنطن وأخرى فى "الرقة"، ويتخيل أن ألعاب الأطفال قد تُفلت فى زحام تفاهمات الكبار وحواراتهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة