تعانى مصر من شيئين أساسيين: الأول نقص فى الكوادر المدربة «الخبرة» والثانى هو ضمور فى الأفكار الخلاقة «الإبداع» وللأسف نادرا يتوافر فى أحد عاملى الإبداع والخبرة معا، ولهذا نادرا أيضا ما نجد نجاحا مبهرا فى حقل من الحقول أو فى مجال من المجالات، وإذا حدث هذا لا يتعدى الأمر كونه «طفرة» مرتبطة بحالة «فردية» سرعان ما تخبو بزوال «الفرد»، فكيف تتغلب مصر على هذه الآفة المزمنة؟
من وجهة نظرى فإن مهمة مصر الأولى الآن هى إعداد العقول المبدعة، لأن الإبداع هو أول شروط التقدم، الإبداع فى الهندسة يؤدى إلى «طفرة معمارية» الإبداع فى الميكانيكا يؤدى إلى طفرة صناعية وتكنولوجية، الإبداع فى فن يؤدى إلى خلق رموز ثقافية ورواد فى شتى المجالات، والإبداع فى السياسة يؤدى إلى خلق قادة عظماء يستطيعون نقل البلاد من حال إلى حال، أما الخبرة فتأتى مع التجربة والتراكم والاختبار والتلاقح وتبادل المعرفة، والشغف بالاطلاع، أى أن الإبداع كما أكدنا هو الأساس الذى لا يمكن تعديله، أما الخبرة فمن الممكن تحصيلها فى أى وقت إذا ما توافرت شروط الجدية والإصرار والمعاونة.
من هنا نتأكد أنه من الواجب الآن أن نسعى بكل ما أوتينا من قوة إلى غرس الإبداع فى العقول والقلوب، لأنه كما قلنا مثل الأساس الذى لا ينفع فيه تعديل بعد إقامة البنيان، وللأسف فإن الإبداع أو «الحاسة الإبداعية» قلما ينفع معها غرس فى الكبر بعد أن يرتب الإنسان أولوياته ويحدد اختياراته، ولهذا فإن مهمتنا كـ«شعب» وكـ«دولة» هى أن نزرع الإبداع فى العقول والقلوب والوعى مع بدايات تعرف الأطفال على العالم، تعليم المنطق حتى ولو عن طريق «التلوين» يؤدى إلى إرساء دعائم التفكير السليم، تعليم «الموسيقى» يؤدى إلى إرساء مبادئ الرياضيات والجمال فى آن، تعليم الشعر يؤدى تنمية الحصيلة اللغوية وإثراء معجم المفردات والألفاظ وتوسيع أرض الخيال فى الأذهان، تعليم المسرح يؤدى إلى الإبداع فى القيادة وتنمية روح الفريق، تعليم الفن التشكيلى يؤدى إلى ترسيخ آليات نبذ القبح وإرساء دعائم النظر السليم، ستقول لى وما دخل هذا بالهندسة والميكانيكا والسياسة؟ وأقول لك: إن الإبداع واحد فى كل شىء لكنك لن تفلح فى تلقين ابنك نظريات فيثاغورس ونيوتن، بينما من السهل جدا أن تغنى معه «دو رى مى فا صول لا سى».