الحضارة الغربية بصفة عامة والأمريكية بصفة خاصة بكل إنجازاتها التى حققتها بتقدمها العلمى والتكنولوجى والصناعى، تسير الآن نحو الركود والجمود، بعد أن أخذت تفقد مقومات حيويتها ونشاطها وقدرتها على الخلق والإبداع اللازم لاستمرارها، الأمر الذى يؤدى لا محالة لاندثارها وفنائها، وانتقال دورها إلى آسيا التى تدل كل الشواهد على أن حضارة الجنس الأصفر سوف تأخذ مكانها، تماماً مثلما حدث عندما انتقل هذا الدور من اليونان إلى الرومان، هذا ما انتهى إليه «أوزفالد شبنجلر» «وهو من أبرز المفكرين وفلاسفة التاريخ الغربيين الذين يأخذون بالنظريات الدائرية Cyclical Theories فى تفسير المراحل التى تمر بها الحضارات الإنسانية».
وهذه النتيجة التى توصل إليها شبنجلر، تتفق مع آرائه فى تغير الثقافات والحضارات، حيث يرى أن عمر الثقافة الواحدة يصل إلى حوالى الألف عام، وأن الحضارة الغربية التى بدأت، فى رأيه، حوالى عام 900 م، تعيش الآن مرحلة احتضارها، حيث تشهد حالة من التدهور والجمود التى سوف تنتهى باندثارها وفنائها.
والواقع أن شبنجلر يعبر بآرائه هذه عن مبلغ التشاؤم الذى وصل إليه من خلال نظريته لواقع الحضارة الغربية الذى بلغ به حداً جعله ينظر إليها على أنها مصدر خطر يهدد العالم بأكمله. ومبعث هذا الخطر يعود، فى نظره، لمحاولة حشد أجزاء العالم الأخرى لتمثُّل مقومات هذه الحضارة ثقافة أو منهج حياة، ما قد يعنى أن تدهورها يرتبط بتدهور الحضارة الغربية ذاتها، وهنا نقف قليلاً لنرى مدى صدق هذه النظرية على توجه الولايات المتحدة نحو فرض أو تصدير عناصر الحضارة الغربية لسائر المجتمعات الأخرى، خاصة المجتمعات العربية والإسلامية.
فقد عملت أمريكا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية على فرض ثقافتها وأسلوب حياتها على اليابان وعلى دول جنوب شرق آسيا التى بسطت عليها نفوذها مثل كوريا الجنوبية، وظنت، بعد نجاحها النسبى فى تغيير بعض مظاهر السلوك الحياتية فى اليابان بخاصة، أنها قادرة على عولمة الثقافة الغربية وفرض مفاهيمها وقيمها على المجتمعات الأخرى، بدليل أن بعض المسؤولين الأمريكيون فى إدارة بوش سربوا أنباء عن دراستهم لإمكانية تطبيق النموذج اليابانى على العراق بعد احتلاله.
هذا مع الفارق فى الهدف، حيث توظف الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة كل إمكانات أمريكا الاقتصادية والعسكرية وتفوقها العلمى والتكنولوجى نحو بسط سيطرتها على العالم والتحكم فى اقتصادياته وتجيير ذلك كله لصالح رفاهية المجتمع الأمريكى. وهنا، أيضا، نكتشف أن توجهات الاستراتيجية الأمريكية هذه تنسجم مع تخوف شبنجلر من أن دفع جميع المجتمعات الإنسانية لتمثل عناصر الثقافة الغربية، سوف يربط مصيرها بمصير تلك الحضارة التى تمر الآن بمرحلة الشيخوخة والاحتضار التى سوف تنتهى بها لا محالة للاندثار والفناء.
ليس من شك أن المؤسسات العلمية والبحثية التى عادة ما توظفها الإدارات الأمريكية للقيام بدراسات وبحوث تعينها فى رسم سياساتها الاستراتيجية على المستوى العالمى، لا شك أنها اطلعت على نظرية شبنجلر فى تفسير مسيرة الثقافات والحضارات الإنسانية التى انتهت بتلك النظرة التشاؤمية التى تتنبأ بسقوط الحضارة الغربية وفنائها.
وليس من شك، أيضاً، أنها اطلعت على النظريات الأخرى التى عارضت تلك النظرة التشاؤمية لما ستنتهى إليه الحضارة الغربية، ووجدت فيها دعماً لتوجهات الإدارة الأمريكية نحو فرض قيم الحضارة الغربية الأخلاقية وأعرافها الاجتماعية على المجتمعات الأخرى، حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
كما وجدت فيها تعضيداً لبعض كتابات الأمريكيين المعاصرين مثل كتاب «نهاية التاريخ» لفوكوياما، وكتاب «صدام الحضارات» لصمويل همنتنجتون، فضلاً عن التقارير والرؤى التى يكتبها المستشارون العاملون فى تلك المؤسسات التى غالبا ما تفتقر إلى الأسانيد العلمية، كما لا تخلو من التعسف فى إصدار الأحكام وكتابة التوصيات التى عادة ما تعتمد عليها الإدارات الأمريكية فى رسم سياستها الخارجية.
ويعتبر المفكر «آرنولد توينبى» Arnold Toymbee من أكثر المعارضين لنظرة شبنجلر التشاؤمية، حيث يقرر أن الحضارات والثقافات الإنسانية تستطيع أن تجدّد حيويتها وتنهض من كبوتها على نحو ما، حين تصل للمرحلة الأخيرة من دورتها وهى مرحلة الانحلال والفناء.
وهو بذلك يتفق مع ما ذهب إليه بن خلدون فى مقدمته الشهيرة، حيث يقول بأن الحضارة الإنسانية، حين تصل فى دورتها إلى طور الشيخوخة والاندثار، تستطيع أن تبدأ دورة جديدة تقوم على أنقاض الحضارة المنهارة، وأن تمر بذات المراحل التى مرت بها، وهكذا. فى المقال المقبل نواصل نشر شهادات حقيقية على النهاية المنتظرة للحضارة الأمريكية بصفة خاصة الغربية بصفة عامة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة