فيما يبدأ شهر رمضان الفضيل بنفحاته الإيمانية المباركة فإن هذا الشهر الفضيل يشكل منبعا متجددا للحنين وموئلا لذكريات وطرائف الكثير من المثقفين المصريين والعرب.
وإذ أعلنت دار الإفتاء المصرية أن اليوم "السبت" هو أول أيام شهر رمضان يقول فضيلة المفتى الدكتور شوقى علام، إن هذا الشهر الكريم يمثل غاية كبرى وأمنية منشودة للصالحين يتمنون على ربهم بلوغها وإدراك هذا الزمان المبارك وهو موسم خير وفضل وميدان للتنافس فى العمل الصالح واستباق الخيرات.
وكانت دار الافتاء ألغت، أمس، الاحتفال باستطلاع شهر رمضان حدادا على ضحايا حادث الهجوم الإرهابى بمحافظة المنيا، والذى أوضح الرئيس عبد الفتاح السيسى، بأنه يأتى ضمن استراتيجية داعش الإرهابية لنشر الفتنة بين المصريين ويستهدف "كسر الترابط بين المسلمين والمسيحيين" .
ولئن اعتبر الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة شهر رمضان فرصة للتأمل والاقتراب من الذات والسفر فى أعماق النفس منوها بأن "التأمل من أرقى صفات البشر" فإن تأمل الذكريات الرمضانية يفضى لإدراك معنى وخصوصية "رمضان المصرى" حيث الفرحة والبهجة والانتصار للحياة بروح المؤمن والمتطلع دوما لرحمة الله .
ولعل حقيقة الإسلام كدين للرحمة والتسامح تتجلى فى الحياة المصرية وتراحم المصريين وخاصة خلال شهر رمضان فيما قد يعقد البعض مقارنات بين الماضى والحاضر ضمن استدعاء ما يعرف "بذكريات الزمن الجميل" عندما كانت الحياة أكثر بساطة وأكثر نزوعا نحو "الدفء الأسرى".
وللكاتب الراحل جمال الغيطانى تأملات رمضانية خلابة، ومن بينها طرح كتبه بعنوان "متتاليات رمضانية" يستدعى فيه ذكرياته عن الشهر الكريم ويقول "فى طفولتى والرحلة لا تزال فى بدايتها كنت أنتظر قدوم أول أيامه كما انتظر حلول ضيف عزيز يصحب معه كل جميله".
وربما لم يكن الغيطانى وحده فى طفولته هو الذى تصور رمضان "شيخا مهيبا كل ما يمت إليه أبيض" ولعل البعض أيضا استمروا مثل هذا الكاتب الراحل العظيم "دون أن يبدلوا الهيئة الآدمية التى تصور الشهر الكريم كشيخ طيب الملامح أبيض الثياب ويثير البهجة فى نفوس الجميع".
وفيما كان يسكن أيام طفولته فى حارة عتيقة من حارات القاهرة القديمة، فإن أول شعور كان يراود جمال الغيطانى مع حلول شهر رمضان هو ذلك "الشعور العميق بالاطمئنان، حيث تحبس العفاريت وإمكانية اللعب والمرح إلى ساعة متأخرة من الليل".
ويستدعى "الحاضر الغائب جمال الغيطانى" حتى "الذكريات الغذائية الرمضانية" مثل "الزبادى الذى يعد من لوازم السحور وكان يباع فى أوان صغيرة من الفخار تسمى بالسلطانية ومذاقها بالتأكيد مختلف عن الزبادى المعبأ الآن فى ورق مقوى وينتج بكميات كبيرة" أما الحلوى فتتحول من طبق استثنائى فى الأيام العادية إلى ثابت من الثوابت الرمضانية سواء كانت "كنافة أو قطايف".
وفيما تقترب الذكرى الـ44 لحرب العاشر من رمضان، فإن جمال الغيطانى الذى عمل كمراسل حربى أثناء تلك الحرب التحريرية المجيدة استدعى ضمن ذكرياته الرمضانية إصرار المقاتلين المصريين على القتال وهم صائمون رغم صدور فتوى بالإفطار كما استدعى "الوجبة الرمضانية الجاهزة" التى وفرتها شركات القطاع العام حينئذ للمقاتلين فى الشهر الفضيل وكانت تحوى كل المكونات الغذائية الرمضانية التى يعشقها المصريون بما فى ذلك "المخلل".
فهذا الشهر الفضيل يستدعى دوما بكل الفخر يوم العبور المصرى فى العاشر من رمضان 1973 وملامح الحياة فى مصر التى عبرت الهزيمة لتحرر أرضها المحتلة فى سيناء وتواصل الانتصار لقيم الحق والخير والجمال.
وبطابع الحال يلح "المسحراتى" على ذاكرة "الغائب الحاضر جمال الغيطانى" شأنه شأن كل المصريين وهو يمضى بالنداء المنغم: "اصحى يانايم.. قوم وحد الدايم" وهو نداء له سحره عند الأطفال على وجه الخصوص والذين تغمرهم السعادة عندما ينادى المسحراتى فى طوافه الليلى الرمضانى بأسمائهم ناهيك عن "فانوس رمضان" الذى يعد "ظاهرة قاهرية قديمة وربما يعود عصره إلى العهد الفاطمى" كما يقول حسن عبد الوهاب فى مؤلف صغير طريف عن "رمضان المصرى".
وقد يكون شهر رمضان الكريم محفزا لاستدعاء الطرائف كما فعل الكاتب العراقى الأصل خالد القشطينى، فراح يتحدث بعذوبة عن الشاعر حسين شفيق المصرى "وشعره الحلمنتيشى" وإقدامه فى هذا الشعر على معارضة المعلقات السبع بقصائد سماها "المشعلقات" !.
ولأن الجوع والعطش فى الصيف القائظ أمر يثير أعصاب البعض ويتسبب أحيانا فى مشاحنات فقد أوحى ذلك للشاعر الحلمنتيشى حسين شفيق المصرى بكتابة "مشعلقة" ينافس فيها قصيدة أبى العتاهية الشهيرة بمطلعها:"آلا مالسيدتى مالها..أدلا فأحمل دلالها".
وهكذا كتب حسين شفيق حسين المصرى فى معارضته لقصيدة أبى العتاهية: "ألا مالسيدتى مالها؟..أدلا فأحمل دلالها..أظن الولية زعلانة وماكنت أقصد ازعالها..أتى رمضان فقالت هاتولى زكيبة نقل فجبنا لها.. ومن قمر الدين جبنا ثلاث لفائف تتعب شيالها".
ويمضى خالد القشطينى، فى استدعاء الطرائف الرمضانية لينقل عن حسين شفيق المصرى قوله فى هذه "القصيدة الحلمنتيشية" "وجبت صفيحة سمن وجبت حوائج ماغيرها طالها..فقل لى على ايه بنت الذين بتشكى الى اهلها حالها" ؟!.
ولئن كان لشهر رمضان تأثيره الكبير على طفولة وتشكيل الكثير من المثقفين المصريين والعرب، فالحقيقة أن الذكريات الرمضانية جزء اصيل من الثقافة المصرية..فرمضان المصرى لدى أجيال وأجيال يعنى الشيخ محمد رفعت بقراءته القرآنية التى تنعش اوتار القلوب وتواشيح النقشبندى والفشنى وفوازير آمال فهمى وصلاح جاهين والف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا.
وقد يتجلى أكثر وأكثر معنى "رمضان المصرى" وروائح البهجة مع تأمل عنوان كتاب لأحد الآباء الثقافيين المصريين والعرب وهو جلال الدين السيوطى صاحب "اللطائف فى الكنافة والقطائف"، وهو كتاب عن الحلويات الرمضانية التى يعشقها المصريون بقدر ما يشكل إشارة لمدى ثراء الذاكرة الثقافية الرمضانية المصرية.
وجلال الدين السيوطى الذى ينتسب لمدينة أسيوط ولد عام 1445 وقضى عام 1505 وهو صاحب مؤلفات مهمة فى الفقه والتفسير والتاريخ وقام برحلات ثقافية عديدة فى مشرق الأمة ومغربها حتى بات من ابرز مثقفى النصف الثانى من التاسع القرن الهجرى وله مقام يحمل اسمه فى أسيوط.
ولن يكون من الغريب أن تتحول ذكريات رمضان إلى أنشودة حب لمصر والمصريين كما هو الحال فى كتابة أديب سودانى الأصل عاش تكوينه فى مصر ويقيم منذ سنوات فى النمسا كأكاديمى ومثقف بارز وهو طارق الطيب الذى كتب عن "رمضان فى فيينا" فإذا به فى الواقع يكتب عن "رمضان فى القاهرة"!.
وإذا بطارق الطيب يقول "من أكثر الأحاسيس التى تذكرنى بمعنى كلمة وطن الإحساس الوجدانى الطبيعى التراكمى لشهر رمضان فى القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن وعلى مدى ربع قرن".
ولئن كان طارق الطيب قد رسم لوحة قلمية بديعة لرمضان فى القاهرة فقد تناول فى الواقع خصائص "رمضان المصرى" مستعيدا صوت المسحراتى الباقى فى وجدانه حتى الآن والفوانيس الملونة التى حملها وهو طفل صغير وزينة رمضان فى الحارات التى كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة ليخلص إلى أن "أجواء رمضان فى مصر كانت أجواء ثرية ولها مذاق لا يبارى".
و"رمضان المصرى" يعنى "الفانوس أبو شمعة المصنوع من الصفيح" والقص الجميل وأروع السير سواء فى المدن أو أعماق القرى البعيدة فى الصعيد والدلتا حيث كان الغناء يتصاعد فى الأيام الخوالى "افطر يا صايم على الكعك العايم" أى الكعك "العائم فى السمن" !.
وكعك العيد الذى يخبز فى رمضان عادة مصرية خالصة ترجع لعصر الدولة الطولونية والفاطميين الذين خصصوا لصناعته وتوزيعه ادارة رسمية فى دولتهم بمصر حملت اسم "دار الفطرة" كما تقول كتب التاريخ وكما يشهد متحف الفن الاسلامى بالقاهرة الذى يحوى قوالب للكعك نقشت عليها عبارات دالة مثل :"كل واشكر مولاك" و"كل هنيئا واشكر".
و"النكهة الرمضانية" مصرية غالبا حتى لكثير من غير المصريين و"رمضان المصري" يعادل حى الحسين الذى لا يكاد يكتمل الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب دون قضاء ليلة فى رحاب وعبق هذا الحى القاهرى مابين المسجد الحسينى والجامع الأزهر وخان الخليلي.
فما زال حى الحسين علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الانشاد الدينى والمقاهى ومشغولات الحرفيين المهرة فيما امسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التى تعود للعصر الفاطمى والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة.
وهكذا يحق القول بأن لرمضان المصرى خصوصية واى خصوصية !..انها الخصوصية المصرية المعبرة عن عبقرية الهوية والطقوس الاحتفالية للمصريين وهم فى الحقيقة يحتفلون بالحياة بقدر ما يؤمنون بحتمية الموت والبعث ويوم الحساب.
والفارق كبير، كبير بين هذه النظرة الايمانية المصرية للوجود والحياة والموت وبين منظور الارهاب الذى يريد البعض فرضه على مصر والمصريين !.
ورغم توحش الإرهاب العميل وضرباته الغادرة التى تدمى القلوب المؤمنة فى مشرق الأمة ومغربها فان ثقافة الوسطية المصرية التى تتجلى فى شهر رمضان الفضيل تبقى فى طليعة قوى المقاومة لهذا الارهاب الذى يكشر عن أنيابه.
وهذه الثقافة بأبعادها الايمانية وذائقتها الجمالية تتبدى فى الابداع المصرى فى فنون التلاوة القرآنية والتفاف المصريين للإنصات لأصوات جميلة فى عالم التلاوة وفى مقدمة هذه الأصوات الخالدة محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل.
وهاهو طارق الطيب يقول :"الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لا تنسى : صوت الشيخ محمد رفعت وصوت النقشبندى ونصر الدين طوبار وعبد المطلب فى "أهلا رمضان" ويتساءل :"فهل للجيل الجديد اصواته الرمضانية التى يحتفظ بها وهل ستكون له حاسة صوتية اخرى تستند اليها ذاكرته حين يسير به الزمان فى الزمان او حين ينقله المكان إلى مكان"؟!.
وواقع الحال أن "رمضان المصرى" او هذه الظاهرة المصرية الأصيلة تكشف عن حقيقة الروح المصرية العاشقة للجمال كمنحة ربانية وهبها الخالق للبشر وتطلع المصريين دوما للسماء طالبين عون ورحمة الواحد الأحد واحتفالهم فى الوقت ذاته بالحياة والسعى لمنحها معان تتسق مع المواريث الحضارية المتراكمة على ضفاف النيل.
ولئن حق القول بأن هناك أياد خفية تعبث فى الخفاء وقوى خارجية تشجع الارهاب الظلامى فان هذا الايمان المصرى يشكل أكبر وأعظم قوة مقاومة لأعداء الأمة بقدر ما يقدم الاجابة على اسئلة الوقت.
فلنتأمل الرحلة الإيمانية للمصرى عبر الزمان وهذه الأنماط من التدين المتسامح للمصرى الذى لا يملك سوى ايمانه بالله فى عمق اعماقه لأنه وارث تاريخا مديدا من التجارب الايمانية الفردية والجماعية ولنتأمل هذا الايمان المصرى المنتصر للحياة والذى لا يعرف التجهم رغم المحن .
ولأن المصرى مؤمن بالفطرة فهو يرفض اليأس ولا يتخلى ابدا عن يقينه فى رحمة الله التى وسعت كل شىء..أنه المصرى الذى يحمل البهجة وعشق الجمال لأن الله جميل يحب الجمال كما يردد المصريون دوما.
كل ذلك يدركه أعداء مصر والمصريين ومن ثم فهم يحاولون ضرب روح مصر بجلب انماط مغايرة من تعبيرات وسلوك مضاد للإيمان المصرى !..إنه "التدين المغشوش الذى يحاول إقامة خصومة وقطيعة بين المواريث الإيمانية للمصريين وتراثهم الثقافى وسلوكهم".
تدين مصطنع يصادم جوهر الدين ومقاصده ويدعو للموت ويعادى الحياة والبسمة والبهجة البريئة والروح المصرية الساخرة التى تهد جبال المصاعب وتتجاوز اخاديد الهموم !..انها روح مصر المؤمنة والطيبة التى منحت مذاقا خاصا حتى لشهر رمضان الذى يجمع القاصى والدانى على ان مذاقه المبهج لا يتجلى فى بلد مثل مصر ..حتى التلاوة المصرية للذكر الحكيم لها طابعها الجمالى البالغ العذوبة.
والرئيس الراحل انور السادات كان فى الواقع صاحب "الخلطة السحرية" لدعاء او اغنية دينية شهيرة اقترنت بشهر رمضان وهى اغنية "مولاى" فهو الذى اقترح فكرة التعاون بين الموسيقار الراحل بليغ حمدى والمنشد العظيم سيد النقشبندى.
كانت "مولاى" واحدة من اربعة موشحات او ادعية دينية شارك فيها الثلاثى بليغ حمدى كملحن وسيد النقشبندى كمنشد وعبد الفتاح مصطفى كشاعر وحملت الموشحات الثلاثة الأخرى عناوين: "أقول امتى..ويارب..ولا الله إلا الله".. لكن أنشودة "مولاى" هى التى استأثرت بالقدر الأكبر من الاعجاب وظلت تزداد سحرا بمرور الزمن وتفيض العيون دمعا كلما انساب صوت الشيخ سيد النقشبندى بكلمات عبد الفتاح مصطفى التى لحنها بليغ حمدى.
ووصف هذا التعاون بين الملحن والمنشد والشاعر بأنه "خلطة سحرية كان يقف خلفها الرئيس الراحل أنور السادات..ولم لا ؟!..ألم يكن رئيسا لشعب يعشق كل ما هو جميل ويمنح قيمة مضافة لكل شىء ؟!.
من الذى يمتلك فطرة نقية وذائقة سليمة ولا يعشق اصوات مقرئين مصريين مثل محمد رفعت ومصطفى اسماعيل والشعشاعى والحصرى وعبد الباسط والمنشاوى والبنا ..اصوات كأنها الحان من السماء لأهل الأرض" وخيوط من وجد وبهجة تحمل رسالة السماء للأرض وصفحة خالدة فى قصة "رمضان المصرى". إنها قصة شعب مؤمن ومنتصر للحياة .
تحية للمصريين وهم فى رباط إلى يوم الدين يتحركون بنور الإيمان وثقافتهم الوسطية الأصيلة لحماية احلام المستقبل والتصدى للشطط والانحراف وكشف هؤلاء الذين يسعون فى الأرض فسادا وخسرانا للدنيا والدين..تحية لهم مع اطلالة الشهر الفضيل وهم ينتصرون للحياة ويدافعون عن الدين العظيم ويكتبون صفحة جديدة فى قصة "رمضان المصرى".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة