يعد البابا فرنسيس نموذجًا مختلفًا تمامًا عن سلفه الألمانى البابا بندكت السادس عشر، الذى أساء للإسلام ولرسوله الكريم فى إحدى محاضراته فى ألمانيا، ورفض الاعتذار مما حدا بالأزهر الشريف وقتها أن يقطع كل حواراته مع الفاتيكان وتبعته مؤسسات إسلامية أخرى.
البابا فرنسيس هو أول بابا للفاتيكان من خارج أوروبا، فهو من الأرجنتين وهو يسير على درب البابا يوحنا بولس الثانى، الذى كان مضرب الأمثال فى تبنى قضايا التحرر الوطنى والعروبة وقضية فلسطين، وكان يتمتع بعفو نادر وتسامح كبير حتى أنه زار الشاب التركى محمد على أغا، الذى حاول اغتياله فى سجنه وعفا عنه وطالب بالإفراج عنه.
ولذا أطلق البعض على البابا فرنسيس «بابا السلام»، فهو يتمتع بصفات كثيرة تجعله مختلفًا عن غيره، فقد أعاد إلى الفاتيكان تسامح ومحبة البابا يوحنا، وكلماته دومًا تصالحية لا تعرف التعصب ولا العنصرية، حتى أنه الوحيد الذى نادى مرارًا كل الدول بمراعاة حقوق الإنسان وعدم هضمها بحجة محاربة الإرهاب، وهى كلمات لم ينطق بها بعض أبناء جلدتنا ممن يريدون ذبح كل الإسلاميين من أبناء الإسلام السياسى لكى يستريح العالم منهم، ولا يفرقون بين الإرهابى الذى يحمل السلاح والمعارض الإسلامى الذى يتبنى مشروعًا سلميًا مخالفًا لحكومة أو أخرى.
البابا فرنسيس يحب اللاجئين والمطرودين والفقراء واليتامى وحارب فكرة طرد اللاجئين العرب من أوروبا، وقد بدأ عهده بالانفتاح على الجميع وأولهم العالم العربى والإسلامى، باعتباره مهدًا للرسالات كلها رسالة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، حيث لم تنشأ رسالة واحدة فى أوروبا.
ولعله أصاب حينما اعتبر نفسه حاجًا إلى مصر، فهى البلد الذى عاش أو لجأ إليها جمع كبير من الأنبياء، فإدريس عليه السلام أول من دعا إلى التوحيد على ضفاف النيل، وهذا يوسف عليه السلام الذى أتى ببنى إسرائيل جميعًا، قائلًا لهم «ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»، وهذا النيل الذى كان مهدًا رقيقًا لنبى بنى إسرائيل موسى عليه السلام، وجاء إليها إبراهيم وعيسى ومريم عليهم السلام.
فالشرق وإن غلبت عليه الديكتاتورية والتعصب والفقر والجهل والتخلف إلا أنه سيظل مهد الرسالات، وما هذه الآفات والأمراض إلا لبعد الناس فى بلادنا عن جوهر رسالات الأنبياء، وتمسكهم بالشكل لا المضمون، والمظهر لا الجوهر، وقلة الغوص فى المقاصد الكبرى لهذه الرسالات.
أحسن إمام السلام د.أحمد الطيب استقبال بابا السلام فرنسيس وأحسن وفادته فى مؤتمر السلام الذى اعتبره أعظم إنجازات الأزهر فى عهد شيخه الصابر الصامد الزاهد د.الطيب الذى يعرف العالم قدره، ويجهله الأقزام فى بلادنا، وأكثرهم نفعيون آفاقون لا يخرج رأيهم من عقولهم.
كان المؤتمر مختلفًا عن مؤتمرات العرب، فيه حيوية وقوة وتجرد، كلمات دقيقة، مفعمة بالصبر والتجرد، تبحث عن المشتركات، لا تدق طبول الحرب أو تطلق نعيق الصراعات ولم يكن حنجوريًا فارغ المضمون، خاطب العقول ولم يدغدغ المشاعر، كل كلمة موضوعة بدقة، فلا يحسن الحديث عن السلام بالذات إلا من يحسنه ويحبه، دعاة الحرب والصراع والدماء آفاقون كذابون.
بحث المؤتمر عن المشتركات والتعايش، لن يستطيع أحد أن يقهر الآخرين على تغيير دينهم أو مذهبهم أو أعراقهم ولكن يمكنهم التعايش والتوافق والتحاب على أرضية عمران الكون، والتأثير والتأثر الإيجابى.
تلمس ذلك مليًا فى كلمات إمام السلام د.الطيب الرائعة والرصينة «رسالة محمد ليست دينًا منفصلًا عن رسالة عيسى وموسى وإبراهيم ونوح عليهم السلام وإنما هو حلقة أخيرة فى سلسلة الدين الإلهى الواحد»، وقوله: «الأديان كلها متفقة على أمهات الفضائل وكرائم الأخلاق وتغريد الوصايا العشر، وموعظة الجبل كلها تغرد فى سرب واحد ولغة شعورية واحدة»، وقوله: «القرآن الكريم يقرر حقيقة الاختلاف بين الناس دينًا واعتقادًا ولغة ولونًا، والاختلاف هو سنّة الله فى عباده التى لا تتبدل حتى تزول الدنيا»، ويقول: «ويترتب على حقيقة الاختلاف منطقيًا حرية الاعتقاد والأخيرة تستلزم بالضرورة نفى الإكراه فى الدين».
وكلمة بابا السلام فرنسيس: «عظمة أى أمة تتجلى فى الرعاية التى تكرسها للفئات الأكثر ضعفًا فى المجتمع، لا يمكن بناء الحضارة دون التبرؤ من أيدولوجية الشر والعنف».
وكلمة جيمس وينكلر رئيس كنائس الولايات المتحدة الذى استنكر الحروب الأمريكية، فقال: «ما فتئت بلادى الولايات المتحدة الأمريكية تشن حروبًا طوال فترة حياتى، ويقع علينا نحن المسيحيين الأمريكيين مسؤولية كبرى بأن نكون صوتًا قويًا للسلام، وأن نعيد توجيه أمتنا بعيدًا عن الحروب، وهذا بسبب إيمانى العميق بالسنة الإبراهيمية أن أكون صوتًا للسلام لا يتزعزع، وأنا أتعهد لكم اليوم أن أظل رافعًا صوتى ما دمت على قيد الحياة حيث أمتنا تنفق على الجيش أكثر من أى أمة أخرى».
وكلمة رئيس أساقفة نيجيريا: «السلام هبة رائعة من الله».
وكلمة نبيلة مكرم: «الأزهر يمثلنى» وهى تشبه كلمة د. منى مكرم الأثيرة «الأزهر ليس للمسلمين فحسب ولكنه لنا جميعًا «لتعيد سنن الراحل الكريم مكرم عبيد مع الإسلام والمسلمين، فالأزهر يمثل الحضارة بمعناها الواسع وهذا مالا يفهمه بعض المسلمين الذين لا هم لهم سوى إهالة التراب على الأزهر ظلمًا وعدوانًا.
وكلمة د.الشريف العونى أستاذ الدعوة بجامعة أم القرى: «الاستغلال الظالم للنصوص المقدسة إجرام فى الفهم والعمل، والأديان السماوية ونصوصها المقدسة بريئة من الدعوة للإرهاب والعدوان».
لم يكن هذا المؤتمر مكلمة عربية أو كلمات مرسلة، أو حنجورى وقتى مثل غيره من المؤتمرات ولكنه كان صيحة ضمير ورسالة سلام من أناس لهم وزنهم وعلمهم وثقلهم وتأثيرهم فى أقوامهم وأممهم.
رسائل السلام لا يقوى غير المؤمنين بها على إرسالها وإرسائها، إنها أشق وأصعب من خطاب الحرب الذى يقيم جاهًا كاذبًا على جماجم وآهات وآلام الآخرين ودموع اليتامى والأرامل والثكالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة