77 تجعيدة فى وجهه، هى عدد سنوات عمره التى عاشها عم زكريا أحمد، لا يقاس عمره بالسنين والأيام والأسابيع كما تقاس أعمار البشر، فهو الرجل الحديدى الذى عاند الزمان وعانده بكل تفاصيله الصعبة، ومشاقه الجثيمة، حتى عبر بنفسه وأسرته إلى بر الأمان، ولا زال يبحر فى الحياة، "يقلب أيامه فيتقلب معها رزقه" كما تقلب الأمواج نفسها، فهو بحر من عطاء لم ولن ينضب.
المحافظ وعم زكريا
عم زكريا الرجل المسن، والذى رزق بـ3 أولاد، يعمل فى جمع الكراتين ويقوم بجر عربة "تروسيكل" بواسطة حبل يلتف حول جسده ومتكأ على عصا، فلم تعد يداه تسعفانه لجر العربة، ولم تعد قدماه تستطيعان حمل أعباء الزمان معه، ليمثل نموذجا يحتذى به الجميع.
يبدأ عمله فى الخامسة صباحا، حيث يبدأ يومه، فاليوم الذى لا يعمل فيه هو يوم لم يعش فيه، ويخرج من منزله مستندا على عصاه، وحزامه رفيق دربه ملفوف حول جسده، يسحب من خلاله عربة خشبية قديمة ومتهالكة، أتعبها الزمان ونوائبه، يتنقل بصعوبة بين شوارع المنصورة؛ لجمع الروبابيكيا والكراتين، والأوراق والصفيح لبيعها، حيث يقتات بثمنها ويواجه بها مصاعب الحياة.
يقول عم زكريا: "أنا أعمل من صغرى ولم أعتمد على مساعدة الآخرين أبدا، الإنسان ينال احترام وحب الناس بالعمل أنا لم أذهب إلى أى مكان، سواء فى المنصورة أو فى غيرها، إلا وجدت محبة الناس واحترامهم، اشتغلت فى كل شىء بداية من الوظيفة، بالرغم من مرضى فى العظام، ولما لم أجد الراتب يعين على تفاصيل الدهر واحتياجات الحياة اليومية، فأنا رب أسرة مكون من 5 أفراد، عملت فى أعمال أخرى، منها مثلا النقاشة، وكنت أعمل فى طلاء البيوت والجدران، وكنت راضيا بهبة المهنة تماما، ولكن صحتى تعبت منها سريعا، خاصة صدرى، استنشاق مواد الطلاء النفاذة أتعبتنى كثيرا، وطبعا لا ينفع أن أعمل وأصرف الراتب وما أتكسب منه من العمل على العلاج، وكنت على يقين تام أن أسرتى فى حاجة إلىّ، فانتقلت إلى مهنة أخرى، ليست أقل خطورة من النقاشة، ولكن ضررها أقل، وهى شىّ السمك".
ويتابع عم زكريا حديثه لـ"اليوم السابع": "مهنة شىّ السمك أتعبتنى كثيرا أيضا، ولكن كنت أتحصل منها على أموال جيدة، أستطيع أن أنفق بها على منزلى، وعلى احتياجات أسرتى، خاصة أولادى الثلاثة، قرة عينى، وزوجتى التى وقفت معى فى كل مواقف الحياة، ولم تتخل عنى أبدا، وكانت خير صاحب وخير رفيق فى هذه الحياة، وأولادى تحملوا معى كثيرا، ولكنى بذلت كل ما فى وسعى حتى لا يشعرون بالحاجة لأى شىء، وكانت طلباتهم مجابة أولا بأولا، فأنا ملزم بهم جميعا، فى كل شىء، تعليم علاج ملابس صحة، ترفيه، كل شىء".
ويضيف عم زكريا: "أنا على يقين تام وأعلم تمام العلم أن العمل عبادة، وسأظل أعمل فى كل شىء ما دامت صحتى موجودة، حتى نهاية عمرى، بالرغم من مساعدة الكثيرين لى، ولكننى أعشق العمل، أشعر بكيانى، وبطعم المال، وطعم الحياة، حتى لو كنت أعانى معاناة شديدة فى ذلك، ولكن كله يهون من أجل أسرتى، ومن أجل أن أطعم أولادى وزوجتى ونفسى بالحلال".
عم زكريا أثناء جمع الكراتين
ويتابع عم زكريا حديثه: "شى السمك قضيت فيه وقتا طويلا، وكنت أجمع منه أيضا أموالا كثيرة، والميزة فى شىّ السمك عن النقاشة أنه مستمر يوميا، فلا يوجد يوم لا يأكل فيه الناس سمك، لذلك أنا كنت أعمل يوميا به، وكنت أتحصل على مكسب جيد منه، أستطيع أن أسد به رمق أسرتى، وأستطيع أن أعيش به، ولكن كبر سنى، ولم أعد أتحمل الوقوف أمام النار، ولا استنشاق الدخان، والذى كان يمثل لى كابوسا، وكنت دائما أخاف من المرض، حتى لا يتسلل جسدى، وأتعب، ولا أجد من ينفق على أسرتى، ولن أعرضهم فى يوم من الأيام لمد أيديهم لأحد مهما كان، فلقد نجحت فى زواج ابنى الأكبر محمد، ونجحت فى تجهيز ابنتى الثانية، وكنت سعيد جدا أن الله وفقنى لذلك، فأنا رغم حالتى المعيشية الصعبة إلا أننى لم أتهاون فى حقهم، فى أى شىء من أمور الحياة، ونجحت فى أن أدخل ابنتى الصغرى مروة الجامعة، وأصبحت طالبة جامعية، وستحمل شهادة عليا، وأتمنى أن أراها أستاذة فى الجامعة، تعلم الناس، وتدرس للناس، كما علمت أنا كثيرا من الشباب ومن الناس من حولى، أن العمل شرف وعبادة، ولا يعيب أحدا أن يعمل فى أى شىء".
ويضيف عم زكريا عن طبيعة عمله: "أذهب كل يوم فى الصباح للعمل، أقوم بجمع الكراتين من الشوارع، ومن القمامة، ومن المحلات، ومن الأسواق، وأقوم بتحميلها على العربة التى أجرها، بجسدى، فلم أعد أتحمل أن أجرها بيدى، فصحتى بدأت تضعف، وتقل جدا، خاصة مع تقدم السن، وأقوم ببيع الكراتين على حدة، والحمد لله مكسب الكراتين جيد بالنسبة لساعات العمل، وللمجهود الذى أقوم به، وأتمنى أن أستمر فى العمل طيلة عمرى، حتى مماتى، ويرى الله منى خيرا، أنى لم أتواكل وأخذت بالأسباب للحظة الأخيرة".
يذكر أن الدكتور أحمد الشعراوى، محافظ الدقهلية، التقى عم زكريا بمكتبه، وخلال لقائه بالمحافظ روى عم زكريا قصة حياته، ليؤكد أنه ما زال يعمل لحرصه الشديد على العمل، مشيرا إلى أنه بدأ حياته كموظف صغير، ثم امتهن النقاشة، وشىّ السمك، إلى أن وصل به الحال بجمع الكراتين، ووجه عم زكريا رسائل للشباب يطالبهم بالعمل بكل شرف وواجب، قائلا: "الشاب اللى عايز يبقى بنى آدم يشتغل بهواية وحب".
وثمّن محافظ الدقهلية الصفات الشخصية التى يتمتع بها "عم زكريا" قائلا: "أنا لقيتك شخصية زى ما توقعت، الإصرار، الصبر، اللباقة، خفة الدم، الرضا، وأنا نفسى الشباب يسمع منك هذه الوصايا عميقة الرؤية، التى تؤكد التفانى والإصرار فى العمل وأنت نموذج قدوة محترمة، وشرف لى شخصيا أن التقيت بك يا عم زكريا "، وقدم "الشعراوى" درع المحافظة للعم زكريا قائلا: "ده بنقدمه دايما للمتميزين وأنت فوق كل تميز".
ووجه السيد المنياوى، رئيس حى غرب المنصورة، بالتواصل الدائم والتام مع عم زكريا، وأسرته وتلبية كل احتياجاتهم وما يطلبونه، وقال المحافظ: "يا ريت يا عم زكريا تزورنى ولو مرة كل شهر، ومنتظرك بإذن الله تفطر معايا يوم فى رمضان".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة