وصلتنى هذه الرسالة العميقة من شابٍّ مصرى مسيحى، تقول:
«أستاذة فاطمة، النهارده أول رمضان وأنا بجد حزين. كنت فى المكتبة، باصور ورق ترنيمة «احفظ بلادنا يا رب»، علشان نقدمها فى الكورال. وحزنت لما شوفت فانوس رمضان نازل على شكل دبدوب راكب على عجلة! مش ده الفانوس اللى كنت حريص أشتريه كل سنة أنا وكل أسرتى. حتى جدتى كانت بتفرح لما أقدم لها فانوس هدية! فانوس رمضان راح فين يا أستاذة فاطمة؟ وأسئلة كمان كتير:
ليه ماحدش خبّط علينا السنة دى علشان يقولى هات فلوس زينة رمضان؟!
فين طبق الكنافة والقطايف اللى كان لازم حد يديهولنا من الجيران؟!
هو ليه ماحدش بقى بيضرب بومب ويفرقع صواريخ قدام باب العمارة!
ليه لما ركبت التاكسى النهاردة، السواق قاللى الشوارع فاضية السنة دى جدًّا؛ فضيت ليه؟ وازاى تفضى!
بس قلت أكيد العيب فيا أنا، أكيد أنا اللى مش عارف انتزع الفرحة من وسط كل الظروف. لذلك أصريت على إنى أحتفظ بفانوس رمضان فى قلبى، وماسيبهوش أبدًا، حتى لو مافيهوش شمعة! وبصراحة، كانت مضلمة خالص فى عينيا ياأستاذة.
مقالك النهاردة كان بالنسبة لى هو الشمعة اللى نوّرت فانوسى. لما قريت المقال لاقيت مصر قدامى عروسة جميلة كما أريدها أن تكون. لاقيت نفسى واقف على السلم بأعلّق الزينة مع إخواتى المسلمين. عمال ألعب وأرمى فى صواريخ وأنا بقول: «مدفع الإفطار، اضررررب.» كنت واقف مع صاحبى «محمد نجيب» بنوزع على الناس «تمر» وقت الإفطار. مش ممكن أنسى الناس وهى بتمسك فيا وبتقولى: «خش افطر معانا.وأقولهم: «يا جماعة أنا مسيحى!» يقولولى: «وإيه يعنى؟ كل سنة وإنت طيب. خش ماتبخلش علينا بالثواب.
أنا بحب شهر رمضان يا أستاذة، وبحب أشوف الطيبة على وجوه الناس والفرحة فى عيونهم. فانوس رمضان لسه فى إيدى، وأنتِ نورتيه بالشمعة بمقال اليوم. وبعد ماخلصت المقال، سمعت صوت بومب وصواريخ، مش قدام باب العمارة وبس، لأ، قدام باب الشقة كمان. وماما دخلت عليا النهاردة بكل أنواع المكسرات والتين وقمر الدين. وطبعاً مش هى اللى اشترتهم. أنا أثق إن مقالاتك بتنوّر فوانيس كتيرة مطفية. ولو حد انتقد مقالاتك بأى كلام جارح، متزعليش، وكونى متأكدة إنه مسكين، معندوش فانوس رمضان. كل سنة وانتِ طيبة ياطيبة. و«كل سنة ومصرُ مصرُ»، زى ما قلتى فى آخر مقالك».
انتهت الرسالة الجميلة.
ولكن هذا العام ليس يشبهه عامٌ سابق. وشهر رمضان هذا ليس مثله رمضانُ سابق. هذا العام أهرق دمَ المسيحيين على سجاد كنيسة فُجّرت يوم عيد السعف، وأغرق رصيف شارعٍ نُحر على قارعته رجلٌ يجلس أمام دكانه آمنًا، ونثر الدماء على نوافذ حافلة تقلّ أطفالا وأمهاتهم وآباؤهم فى طريقهم لأحد الأديرة. وهذا الرمضان بدأ بدم المسيحيين قبل أن يُشرق هلالُه فى سماء مصر. لهذا، كنت خائفة من زوال نعمة سماوية خصَّ اللهُ بها مصرَ دون سائر بلاد العالمين. تمرةً وكأس ماء بارد يقدمها لى شابٌّ مسيحىٌّ وقت أذان المغرب، إذا تأخرتُ فى الطريق عن مائدة بيتى.
كنت مرتعبة من فكرة غياب تلك النعمة عن سماء بلادى. لهذا طوال الأيام الماضية كنتُ أتجنّب التأخر فى الشارع حتى موعد المغرب، حتى لا أُصدم بما قد يقتلنى، حين أتيقّن أننا فرّطنا فى كنزنا الأكبر، منحة الله لنا: المحبة التى تربط بين المصريين مسلمين ومسيحيين. هل المحبة تسقط؟
لكننى قررتُ أواجه الأمر بالأمس، فتعمدت أن أنزل من بيتى وقت المغرب. وصادفنى فى الطريق كثيرٌ من الشباب يقفون كالعادة على نواصى الطرقات يقدمون الماءَ والتمر للصائمين. فى السنوات الماضية كنت أتعمّد أن أتوقف بسيارتى وأدردش مع أولئك الشباب ولا أمضى قبل أن أتأكد أن معظمَهم مسيحيون. لكننى بالأمس، خجلتُ أن أسأل. الأدق أننى «خشيتُ» أن أسأل حتى لا تقتلنى الإجاباتُ، وقررتُ ان أعيش خيالىَ الجميل دون أن أعرف الواقع الذى قد يكون مُرًّا. فليس أشهى من تمرة تقدمها لى يدٌ مسيحية لأكسر صيامى، وليس أصفى من كأس ماء بارد يشفى ظمأى تحمله يد مصرية تتقن درس المحبة المطلقة. إن توقّف الشبابُ المسيحىُّ عن تقديم التمر والماء لأشقائهم صائمى رمضان، فستنتهى مصرُ، ولن أجرؤ على عتابهم. فقد آذيناهم كثيرًا. لكننى أراهنُ على تحضّرهم ورُقيهم الذى أعرفه حقّ المعرفة، وواثقةٌ أنهم لن يسمحوا أن يفرّطوا فى تلك النعمة الكبرى التى خصّهم الُله بها ونتعلمها منهم كل يوم: المحبة والسلام والغفران. إنهم يغفرون للذين يسيئون إليهم حتى يطلبوا الغفران من الله. لهذا يقولون فى صلواتهم: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا». أيها المسيحيون الأنقياء، اغفروا للمذنبين إليكم حتى يستمر درس «المحبة التى لا تسقط أبدا»، وحافظوا على «التمرة» فى أكفّكم الطيبة، وكأس ماء بارد لا يضيعُ أجرُه.
أما إجابة سؤالى فى عنوان المقال، فسوف تعرفونها فى مقالى الأسبوع القادم بإذن الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة