القلم ليس «شومة» نهوى بها على رؤوس العباد، فنصيبهم بالجروح و«التربنة»، ولا مطواة «قرن غزال» نغرسها فى الظهور، أو «نشرّح» بها الوجوه، لكنه أداة لتوصيل الأفكار ونقل المعانى، وكلما كان بين أصابع تحترم المبادئ وتقدس القيم، سادت القواعد الأخلاقية التى بدونها تتحول الحياة إلى غابة، ليس فيها فقط كبير يأكل الصغير، ولا صغير يتطاول على الكبير، وإنما فوضى عارمة تضيع فيها الحقوق، ويختلط الحابل بالنابل، والحقائق بالأكاذيب، والذى يدفع الثمن الفادح هى «الحرية»، التى يحتمى تحت ظلها كل صاحب رأى أو فكر.
فى الحالة الصحفية والإعلامية ساد الداء وانتشر الوباء، وأصبح لزامًا على أصحاب الأفكار المحترمة أن يدافعوا عن بقائهم واستمرارهم، فى مواجهة أعداد قليلة من المسيئين للقيم والمبادئ والمواثيق، ورغم قلة عددهم فإن أصواتهم عالية لدرجة الصخب والضجيج، وتؤذى المشاعر، وتدمر صورة الصحفيين والإعلاميين أمام الرأى العام، وكان بعضهم ينزل إلى الميادين فيحمله الناس على الأكتاف، ويهتفون باسمه، ويسعدون بالتقاط الصور معه، أما الآن فلا يستطيع أن ينزل إلى أى تجمع جماهيرى، خوفًا من نظرات الغضب، أو صفعات الوجه أو الركل، وقد حدث ذلك بالفعل.
أم المشاكل هى المواقع الإلكترونية العشوائية، ذلك الوباء الذى يدمر البقية الباقية من مهنة الصحافة والإعلام، واستغل البعض هذا التطور التكنولوجى الهائل فى الابتزاز والتشهير وممارسة الجرائم المهنية والأخلاقية، دون ضابط أو قواعد منظمة، ويدير بعضها أشخاص غير مؤهلين، وأحيانًا أصحاب سوابق ومسجلون خطر، وتحولت إلى منصات للاغتيال المعنوى.
لم أرَ فى حياتى أبشع وأقذر من كثير من التعليقات، التى تُنتشر موقعة بأسماء مواطنين، فى بعض المواقع، ومذيلة بعبارة أن المسؤولية القانونية تقع على أصحابها وليس الموقع، فمن هم أصحابها؟.. الله أعلم، وإذا وقّعوا بأسماء مثل «أنا الأسد، وزكى زوبعة، والقط الأسود»، وما شابه ذلك، فكيف يمكن الوصول إليهم ومحاسبتهم على جرائم القذف والسب، والشتائم والبذاءات وانتهاك الأعراض؟، وهل يعفيهم من العقاب أنهم يلقون بالمسؤولية على عاتق تلك الأسماء الوهمية؟
لا يستطيع برىء أن يحصل على حقه، أو يرد اعتباره إذا نهشته المواقع الإلكترونية العشوائية، ولا يجد جهة يلجأ إليها لتقديم شكواه، ولن يكون أمامه إلا أن يسكت ويسلّم أمره لله، أو يخضع للابتزاز ويدفع بالتى هى أحسن، أو أن يرد الصاع صاعين، ويؤجر «بلطجى إلكترونى» يصمم له موقعًا لرد العدوان، والعين بالعين والشتائم بأمثالها، وظل الوباء يتسرب وينتشر ويتغلغل، حتى وصلت الأوضاع إلى غابة حقيقية، تعشش فيها الحشرات السامة والأوبئة المدمرة للصحة والأخلاق.
تتزايد مخاطر مواقع البلطجة الإلكترونية بالسكوت عليها، فلا القانون يخرج إلى النور، فيحدد المعايير والضوابط، ويحمى المواقع المحترمة، ذات الكيانات المعروفة، والصادرة عن مؤسسات قانونية، والتى تضم عشرات العاملين، وتفتح أبوابًا وبيوتًا، ولا يتحرك أحد إلا إذا وقعت كارثة، فتأتى عربات المطافئ لإخماد الحرائق، رغم أنه كان من الأفضل الحيلولة دون اشتعالها.
المهنة فى ضياع، والخطر يقترب من غرف نوم أصحابها، ومن يتمتع بالحماية اليوم سيُجرد منها غدًا، ولا فرق بين من يشق الجيوب ومن ينتهك الضمير، فكلاهما لص حقير يتسلل فى ظلام الليل أو وضح النهار، ليرتكب فعلًا مجرمًا لا تصل إليه العدالة.