إنَّ الدَّار الآخرة ونعيمها المقيم الذى لا يحول ولا يزول، جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين المتواضعين الَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الأَرْضِ، ولا ترفُّعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبُّرًا بهم، ولا فسادًا فيهم، فقال سبحانه وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين»، وقال الله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا».
كما أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ».
ورغَّب الإسلام فى التَّواضُع وحثَّ عليه ابتغاء مرضات الله، وأنَّ مَن تواضع جزاه الله على تواضعه بالرِّفعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه».
فالتَّواضُع يرفع للمرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا، ويؤدِّى إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له، وهو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب ويكفى المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه.
إن التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة ويُكْسِب السَّلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويُذْهِب الصَّد ويؤلِّف القلوب، ويفتح مغاليقها، ويجعل صاحبه جليل القدر، رفيع المكانة.
ويجب أن نعرف أن ثمرة التَّواضُع المحبَّة، كما أنَّ ثمرة القناعة الرَّاحة، وأنَّ تواضع الشَّريف يزيد فى شرفه، كما أنَّ تكبُّر الوضيع يزيد فى ضِعَتِه.
ومن صور التَّواضُع، تواضع الإنسان فى نفسه، ويكون ذلك بألَّا يظنَّ أنَّه أعلم مِن غيره، أو أتقى مِن غيره، أو أكثر ورعًا مِن غيره، أو أكثر خشية لله مِن غيره.
والتَّواضُع فى التعلُّم، فالمتواضع فى طلب العلم أكثرهم علمًا، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
ِوكذلك من صور التَّواضُع، التواضع مع النَّاس والأقران، فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، والمسلم المتواضع هو الذى لا يعطى لنفسه حظًّا فى كلامه مع الآخرين، وأن يجالس كلَّ طبقات المجتمع، ويكلِّم كلًّا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء.
قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا».
وإذا تواضع كل منا مع مَن هو أقل منه سواء فى العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منه سنا ساد الحب والود بيننا، والذين مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوَّة، والنُّفوذ، فهؤلاء أحوج الخَلْق إلى خُلُق التَّواضُع؛ لأنَّ هذه النِّعم مدعاة إلى الكِبْر والفخر، والذى أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمَّنه بعد خوف، يجب أن يجعل التَّواضُع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشُّكر العملى الحقيقى.
وسنقتدى فى دورتنا الرمضانية هذه بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس، حيث ينتهى به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجىء الغريب، فلا يدرى أيُّهم هو حتى يسأل عنه، فعن أبى ذرٍّ وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهرى أصحابه فيجىء الغريب فلا يدرى أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه».
وقال له رجل: يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبدالله، أنا عبدالله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعونى فوق منزلتى التى أنزلنيها الله».
اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدى يا رسول الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة