"جلس يُطل من شرفة نافذة غرفته، لتقع عيناه على تلك الأرض المنبسطة أمامه، وقد غمرها اللون الأخضر، وقد انعكست أشعة الشمس فوقها، لتتلألأ أمام عينيه قطرات الندى التى تلامس أوراق تلك الشجيرات التى تكاد أن تكوِّن عِقدًا يزين سور حديقته.
مضت أمام عينيه سنوات حياته كشريط سينمائى يحمل فى طِيات مشاهده جميع لحظاتها من آلام وأفراح، من حزن وسعادة، من ضيق ورحب، إلى أن اكتسب شهرة كبيرة جعلته أحد نجوم المجتمع الذين تتردد أسماؤهم فى المحافل. ولٰكن الحياة لم تكُن سهلة بالمرة، بل امتلأت بكثير من العمل والجَهد والتعب، بكثير من الفشل والإحباطات والصبر. ولم يكُن ليستمر فى الطريق الذى قرر أن يسلك دُروبه إلا لإيمانه بما يفعل ويقدِّم. ثم أمسك بورقة مطوية كتب عليها: [يوجد فى حياتنا يا «أمين» شيء أسمى وأشرف من الشهرة: وهو العمل العظيم الذى يستدعى الشهرة.]. تلك الكلمات التى شددت من عزيمته كلما أصابه الوهَن، إنها كلمات الكاتب «جُبران» إلى صديقه «أمين الغريب»، التى ظلت أصداؤها تتردد فى حياته.
نعم، هناك ما هو أثمن وأفضل من الشهرة، وهو ما نقدمه فى لحظات أيامنا وحياتنا على الأرض. لقد تحدثنا فى المقالة السابقة أن الإنسان خُلق للخير. أمّا ذٰلك الخير، فما هو إلا تلك البذور التى يزرعها الإنسان أينما سار فى طريق الحياة، فتُنبِت كل ما هو إنسانى وعظيم فى كل طريق عبر به؛ إلا أن تلك البذور كثيرًا ما تواجَه بالعواصف الشديدة، فى محاولة لقتل الخير على الأرض!! ولٰكن فى كل مكان وفى كل زمان دائمًا ما تجد بشرًا عظماء قد قدموا الخير فكانت حياتهم أنشودة جميلة تحمل نغماتها معنى الحياة وعمقها؛ ومع أن هٰؤلاء قد رحلوا عن العالم، لٰكن ما يزال العالم يحمل فى أعماقه بذور ذٰلك الخير. ومع كل لحظة خير قدمه هٰؤلاء العظماء، فإنهم أكسبوا الحياة جمالاً فائقًا منعكسًا من جمال تملِكه نفوسهم وأرواحهم. يقول الكاتب الشاعر اللُّبنانى "جُبران خليل جُبران" عن أولٰئك العظماء: "رجال طوتهم الأرض، ولٰكنها لم تستطِع أن تَطوى أعمالهم العظيمة. إن العاصفة يا «أمين» تستطيع أن تُميت الزُّهور، ولٰكنها لا تقدر أن تُبيد البذور.".
تُعد أولى خَطوات الخير فى هٰذه الحياة: الاهتمام بالإنسان، والعمل على ارتقائه إلى أسمى درجات الإنسانية التى جعلها الله فى أعماقه؛ فإنه دائمًا وأبدًا الإنسان هو البداية وإليه تنتهى عواقب الأمور: أى إنك تبدأ الخير معه، لينتهى الخير إليه. وحين تقوم بزراعة بُذور الخير فى حياة الإنسان، فأنت تقدمها للمجتمعات وللشُّعوب وللعالم بأسره؛ فإن أردت أن تبدأ الطريق نحو سلام العالم ورغْده وسِعَته، فعليك أن تبدأ بالإنسان. وبما يُزرع فى حياة أطفالنا من حب وتفهم لن تهُزه تيارات الشر أو أمواج الكراهية. إن قوة الخير والمحبة أقوى بكثير من كل قُوى الشر متحدةً! كشمعة صغيرة تهزم وتبدِّد بضوئها قوة الظلام.
• الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة