مع بدايات البحث عن تفسير معانى الحب والحنين والاشتياق، ظهرت كلمة يونانية فى عصور سابقة بأشكال وإيحاءات كثيرة.
ومضمون المصطلح له شقان يرمزان إلى الحنين إلى العودة إلى البيت بمفاهيمه المختلفة وأزمنته الفائتة والخوف من فقدان الأحاسيس التى كنّا نشعر بها فى هذا البيت للأبد .
فالحالة هنا تم تصنيفها على أنها حالة مرضية قد تؤدى فى النهاية إلى الاكتئاب، ذكريات تطارد المصاب بها لتمنعه من الاستمتاع بواقعه وحاضره ومحيطه، ليظل أسيرًا لهذه الذكريات، مشتاقًا لها، متمنيًا العودة إليها مرة أخرى خوفًا من عدم القدرة على العيش بعيدًا عن مكانها الذى ولدت فيه.
وبعد أن تم تصنيف هذه الحالة بالمرضية أو "ببدايات المرض النفسي" وتم البحث عن علاج وحلول له، لإقناع الشخص بأن الماضى لن يعود وأن بيته الأول لن يستقبله مرة أخرى، أو أن محيطه المنتهى تغير ولم يعد كما كان، أصبحت النوستاليجا مع الوقت وتغيرات المجتمع ترمز للجمال المنسى والأيام الدافئة الغائبة، وتحول المجتمع مع الوقت إلى الهروب من الواقع المؤلم للعيش فى الماضى الجميل بشخصياته وأحداثه وشعوره.
وبعد أن تجاوزنا النوستاليجا المرضية المؤلمة، والنوستاليجا المسموح بها والمقبولة؛ وصلنا الآن فى العصر الحديث إلى نقطة أخرى ومرحلة جديدة، وهى مرحلة النوستاليجا المحبوبة.
لنكتشف أننا تصالحنا مع الماضى ولكننا لم نقتنع بالحاضر، بل ونخشى من المستقبل، فاتخذنا فى النوستاليجا سبيلاً لمتعة العيش ودفء الإحساس، أصبحنا نتحدث عن أيام زمان الحلوة أكثر من الواقع المعاش؛ ونربط بألم ماضينا وحاضرنا ونقارنهما مقارنة محسومة لصالح ما فات؛ ونتعجب من الصورة الذهنية التى رسمناها لمستقبلنا.
ولم نكتف بهذا فقط، بل ظهر المستغلون لحالة النوستاليجا المحبوبة التى يعيشها المجتمع، وتجلى المنتفعون منها فى وكالات الإعلانات، التى أبدعت فى العزف على أوتار الماضى ونجحت فى مضاعفة حالة رفض الواقع داخل نفوس الجميع.
فأصبحت الإعلانات تدعونا إلى الهروب من الواقع وربط كل جميل يحدث بالماضى، لتقنعنا بأننا فشلنا فى صناعة حاضر جميل أو مميز وتنزع عنا هوية الوقت والاجتهاد الحاليين وتصبغنا بصبغة الراحلين بزمنهم الجميل، تحت مسمى التراث والاعتزاز بما مضى، وكأننا نضبنا من الحب والجمال والمودة والقيم الطيبة .
لم تَر وكالات الإعلان الأجيال الحالية والعصر المتسارع الوتيرة ومتطلبات الحاضر، فباتت تأخذنا إلى الماضى القريب أو البعيد، بالأغنيات، بالصور، بالمشاهد، فهذا إعلان يتحدث عن أغنية العيد فى الثمانينيات، وذاك يتحدث عن موضة السبعينات، وذاك يتحدث عن شخصيات أفلام لنجم شاب، نجحت شخصياته التى مثلها فى سنوات قريبة فى إفساد أجيال كثيرة؛ بل وصوروهم بأنهم أقوى ناس.
أما هذا فيدعو لقرية سياحية بشخصيات التسعينيات، وذلك البنك الوطنى الذى لم يجد فى العصر الحديث إلا الدعاية بما صنع مؤسسه، وغيره وغيره من إعلانات النوستاليجا.
فالحالة هنا لم تعد مجرد استغلال لمشاعر المجتمع المتعب من ظروفه وضغوطه، لكنها تحولت لتجاهل نجاحات الأجيال الحالية التى تحملت عبء صعوبة الواقع وبنت لنفسها مكانًا واجتهدت فى الوصول إلى الواقع حتى وإن كان مرهقًا لهم، بل ربما ستدفع أكثر إلى عدم التصالح مع الحاضر والرهبة أكثر من المستقبل وغموضه.
ونسى السادة القائمون على صناعة الإعلان فى مصر أن أهل زمان كانوا يعانون من زمنهم ويفتقدون الماضى الجميل، بل كانوا يعتبرون عبد الحليم حافظ فى بداياته فنان شعبى، ولذلك عليهم أن يراجعوا أنفسهم فى ما يبثونه من أفكار تتكرر على مدار اليوم، وأن يقدموا التراث والاعتزاز به لكن دون تحقير وتقزيم الواقع والمعانين منه وصانعيه .
فكما الفن والاعلام رسالة، الإعلان أيضًا رسالة، وعليهم أن يتوقفوا عن ذلك النداء الذى أغرقونا فيه:
نوستاليجا للبيع، تشترى يا أستاذ، تشترى أبلة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة