يقال: فقه الرجل بفتح القاف إذا فهم، وفقِه بكسر القاف إذا سبق غيره فى الفهم، وفقُه بالضم إذا صار الفقه له لازمة وملكة وسجية.
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِى اللَّهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ» (صحيح البخارى) أى ويعطى الله (عز وجل) العلم والفقه والفهم، وقد قالوا: من عمل بما علم ورثه الله (عز وجل) علم مالم يكن يعلم، حيث يقول الحق سبحانه فى شأن الخضر (عليه السلام) :» وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا « (الكهف :65)، ويقول سبحانه: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ» (الأنبياء : 80)، حيث عبر الحق سبحانه وتعالى بلفظ «ففهمناها» ولم يقل علمناها، لأن العلم شىء والفهم شىء آخر.
ويقول سبحانه: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ « (يوسف : 76) ، وقال تعالى على لسان يوسف (عليه السلام): «لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ»، (يوسف :37)، وقال رجل للقاضى شريح: علمنى القضاء، فقال له شريح: القضاء فقه، القضاء لا يُعَّلم.
ولا يظن من حفظ بعض المسائل من بعض الكتب أنه قد صار حجة أو فقيهًا أو مرجعًا يرجع إليه وينزل على قوله أو رأيه، فالأمر أبعد وأعمق، إذ لو كان الأمر واقفًا عند حدود معرفة بعض الأحكام الجزئية بمعزل عن أصولها وسياقها وزمانها ومكانها وقواعدها الكلية والأصولية لكان الخطب هينًا والأمر جد يسير، غير أن الأمر أبعد من ذلك وأدق، فعندما دخل الإمام على بن أبى طالب (رضى الله عنه) المسجد ووجد رجلًا يتصدر مجلس العلم سأله عن الناسخ والمنسوخ فلم يدر جوابًا، فقال عليّ (رضى الله عنه): هذا ليس بعالم، هذا رجل يقول: أنا فلان بن فلان فاعرفونى.
فثمة إلى جانب معرفة القواعد الأصولية، وقواعد الفقه الكلية، وعلم الحديث رواية ودراية، وعلوم القرآن وما يتفرع عنها ويدور حولها من دراسات قرآنية وأسرار بيانية وبلاغية، هناك فقه الواقع، وفقه الأولويات، وفقه المقاصد، وفقه النوازل، وفقه المتاح، وفقه الموازنات، مما لا غنى عنه للمفتى فضلا عن المجتهد، غير أننا ابتلينا فى زماننا هذا برويبضات لا هم فى العير ولا فى النفير يريدون أن يتصدروا مجالس العلم عنوة، وأن يعتلوا المنابر اقتتالاً، وأن يكونوا فى الصدارة زورًا وبهتانًا، يبحث بعضهم عن كل شاذ أو غريب، لا يعنيه أول ما يعنيه إلا أن يجارى السفهاء، أو يجادل العلماء، أو يمارى الأمراء، أو يصرف إليه قلوب العامة والدهماء، أو يسوق نفسه لدى الباحثين عن طالبى الشهرة وحب الظهور لإحداث لون من الإثارة أو الجدل، لعله يحظى لديهم بمغنم أى مغنم، ولو كان على حساب دينه أو وطنه أو كرامته أو مروءته لا يلوى على شىء، على عكس ما نراه فى أخلاقيات العلماء الفاهمين لدينهم المعتزين بعلمهم وفقههم، على نحو ما يصوره العالم الأديب الأريب القاضى على بن عبدالعزيز الجرجانى الأديب حيث يقول:
إذا قِيلَ: هذا مَشْربٌ قُلْتُ : قَدْ أَرَى
ولَكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّـــــــــمـَا
ولَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّـــــمَا
بَدَا طَمَــــــــعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُـلَّــــــمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسـًا وأَجْنِيهِ ذِلَّـــــــةً
إِذَنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحزمَـــــا
ولَوْ أنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُــــــــم
ولَوْ عَظَّمُوهُ فِيْ النُّفُوسِ لعُظِّمــــــــَا
مع التأكيد أن ليس للإنسان إلا ما كتب، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ « (سنن ابن ماجة)، ويقول الحق سبحانه: « فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا « (الكهف : 110).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة