شكرًا للأزهر الشريف الذى استجاب أخيرًا لمطالب الرئيس والشعب، بل هو مطلبُ الحق والخير والجمال والتحضّر، بأن قرر أخيرًا مشاركة قوى التنوير لمواجهة قوى الظلام التى تنشر الكراهية وتُشيع البغضاء فى أرجاء مصر الطيبة، تلك القوى سوداء اليد التى لا تتوقف عن تجهيل الغافلين حتى يكونوا صيدًا سهلا لُمفخّخى العقول، وأصابعَ حادّةً عمياءَ فى أيادى صنّاع الإرهاب، وأن تأتى متأخرًا «جدًّا»، خيرٌ من ألا تأتى أبدًا، فقد تأخر الأزهرُ الشريف عقودًا طوالا عن مواجهة العنف اللفظى والجسدى، وبالأمس فقط قرر أن يقف فى صفّ التنوير، لمواجهة الظلام، فقدم لرئاسة الجمهورية مشروعَ قانون منحوه اسم: «قانون مكافحة الكراهية والعنف باسم الدين»، فى حفل ليلة القدر، ولكنْ... ويا للقنوط والإحباط الذى دائمًا يتلو كلمة: «ولكن»!
فباسم «مكافحة الكراهية»، يئدُ الأزهرُ الشريف ما تبقى من نُثار حرية تعبير قليلة لا تنى تَنْحُلُ وتضمحلُّ وتخفُتُ يومًا بعد يوم فى سماء مصر، حتى أوشكت على النفاد، وباسم «مكافحة العنف» يُشرعنُ الأزهرُ الشريف اضطهاد الكتّاب والمفكرين والأدباء، ويجعل كسرَ أقلامهم وقطعَ ألسنهم مشروعًا باسم قانون ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وباسم محاربة القتل باسم الدين فى مصر، يسحق الأزهرُ الشريف موادّ ناصعةَ الوضوح فى الدستور المصرى الذى استُفتى عليه الشعبُ المصرى وكتبته نخبةٌ من عقول مصر ومفكريها، وباسم مواجهة الإرهاب الفكرى، يدهسُ الأزهرُ الشريفُ رؤوس المفكرين والمستنيرين فى هذا البلد الحزين، كيف ولماذا؟ لأن الأزهر الشريف يعلم تمام العلم، مثلما نعلمُ جميعًا، ومثلما يدرك كلُّ طفل فى مصر، أن مواد قانونه هذا لن تنحر إلا أعناق الأدباء والمستنيرين الذين يحاربون الكراهية بأقلامهم وألسنهم، ولن تمسّ أحدًا من «متأشيخى الظلام» الذين يُفخِّخون المسامع والأفئدة بغليظ القول وبغيض الكلام وزائف الفتاوى التى تتعارض مع الدين كما تتعارض مع أبسط قيم الحق والخير والجمال والإنسانية، فأولئك- متأشيخو الظلام- «لحومُهم مسمومة»، بينما نحن الكتّاب والأدباء والمفكرين، لحومنا رَخْصَةٌ سهلةٌ مبذولةٌ مهضومةٌ متاحة لكل ناهش وكل قارض وكل مجنون شهرة، وكل جهول لا يقدر على كتابة اسمه على نحو سليم، ثم يتجاسر على مقاضاة أدباء ومفكرين، متوسّلا سوءَ استخدام حقّ التقاضى، ولنا شواهدُ مريرةٌ تؤكد قولى، مررتُ أنا شخصيًّا بإحداها، على رؤوس الأشهاد.
قدّم الأزهرُ الشريف لرئاسة الجمهورية مشروعًا لقانون تنصُّ المادة الرابعة منه على التالى: «لا يجوزُ الاحتجاج بحرية الرأى والتعبير أو النقد أو حرية الإعلام أو النشر أو الإبداع للإتيان بأى قول أو عمل ينطوى على ما يخالف هذا القانون» وجلىٌّ أن هذه المادة تُعدُّ مخالفة صريحة لبند من الدستور المصرى الذى تنص المادة رقم (67) فيه على التالى: «حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لذلك»، وقصر الدستور مقاضاة الكتّاب على أمور ثلاثة هى: «الحضّ على العنف، إشاعة العنصرية، الخوض فى الأعراض»، وهى أمور لا يأتيها أديبٌ ولا مفكرٌ، بل يحاربها، هنا أتذكّر بيتًا شعريًّا كتبه زهير بن أبى سُلمى يقول: «رأيتُ المنايا خبْطَ عشواء/ مَن تُصِبْ تُمتهُ/ ومَن تُخطئ يُعمَّرُ فيَهْرُم». فمَن بوسعه أن يفصل فى قول أديب تنويرىّ أن فيه ازدراءٌ لدين؛ حين ينتقد ذلك الأديبُ مشوهى الدين؟! فمثلا: نحن نكتب فننتقد شيخًا ينسب للإسلام ما ليس فيه مما يشوّه الإسلام، فيرمينا جهولٌ بأننا نزدرى الإسلام، بينما نحن نزدرى مُزدريه! لأن ذلك الجهول يظن أن الإسلام هو رجاله، أو المدّعين أنهم رجاله. وبينما نُقاضَى ونُسجن نحن الذين نُجلّ الدينَ ونُنزهه عن الدنس، يأمن شيوخٌ يزدرون الإسلام بدسّ شهوات وغلاظاتٍ ومفاسدَ فى الأثر الطيب، لا يقبلها عقلٌ نظيف، ولم يقرُّها قرآنٌ كريم! فمن هو الحاكمُ والفصلُ فى قول هذا أو قول ذاك؟! خبطُ عشواء! ثم يرفضُ هذا القانون الذى أقرّه الأزهرُ الشريف أن يحتمى الأديبُ أو الكاتبُ بحرية الرأى، فيجعل رأيه هو، الأزهر ورجالاته، الأوحدَ ولا رأى غيره، ما أشبه ذلك بقانون «الأخ الأكبر» الذى ابتكره «جورج أوريل» فى رواية «١٩٨٤» The Big Brother is watching you «الأزهرُ يراقبك»، المجازُ فى القصيدة مراقَبٌ، الكناياتُ والاستعاراتُ ترقبُها عينُ الأزهر الساهرة على مطاردة الأقلام والعقول، أما ناثرو الطائفية والمذهبية والإرهاب الفكرى والكراهية والبغضاء، فهم آمنون مطمئنون لا تبور سلعتُهم.
كان حريًّا بالأزهر الشريف أن يراجع مناهجه التى يحقنها فى رؤوس النشء فى المراحل الإعدادية والثانوية وينقيّها من مواد العنف والتطرف، قبل أن يصوغ هذا القانونَ الذى لن يأتى إلا على رقاب حملة مشاعل التنوير فى مصر، كان حريًّا به أن ينظر إلى الخشبة التى فى عين بعض رجالاته قبل أن يفحص القشّة فى عيون من لا يحملون إلا أقلامًا نظيفة تحارب التكفير والتهجير والتعنيف والقسوة والاضطهاد الطائفى.
سؤال أخير للدكتور «محمد عبد السلام»، المستشار التشريعى والقانونى لشيخ الأزهر، الذى صاغ هذا القانون المُفخّخ: هل اطّلع سيادته على «دستور ماعت» ربّة العدالة فى الميثولوجيا المصرية القديمة؟! لو كان فعل لعرف أن ذلك الدستور المكوّن من اثنين وأربعين مادة، تنصُّ بعضُ بنوده على التالى: «أنا لم أقتل، ولم أحرّض أى أحد على القتل، أنا لم أنتقم لنفسى، أنا لم أتسبّب فى الإرهاب، أنا لم أعتدِ على أحد ولم أسبّب الألم لأحد، أنا لم أسبب البؤس، أنا لم أسبّب أذى لإنسان أو لحيوان، أنا لم أتسبب فى ذرف الدموع، أنا لم أظلم أحدًا ولم أضمر الشرّ لأحد، أنا لم أسرق ولم آخذ شيئًا لا يخصنى، أنا لم أتلف المحاصيل والحقول والأشجار، أنا لم أحرم أحدًا مما هو حق له، أنا لم أتحدث بسخرية من الآخرين، أنا لم أدنّس الأماكن المقدسة، أنا لم أتخذ اسم الله هزوًا، أنا لم أُغضب الله، أنا لم أتصرف بمكر أو وقاحة، لقد أطعت القانون ولم أرتكب الخيانة» ذلك بعض دستور أجدادنا المصريين القدامى، فكم شخصًّا منّا يستحقُّ شرفَ أن يكون مصريًّا؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة