لوّح بيديه ضجرا من حرارة الصيف ورطوبته الخانقة ورخامة الذباب، وتذكر ما جاء من أجله وشغل تفكيره الليلة الفائتة، مدّ يده فى حقيبته الجلدية كالحة اللون الملقاة بجوار كرسيه بمكانه التقليدى بالمقهى وأخرج رزمة من أوراق بيضاء فاخر النوع وبضعة أقلام جافة بألوان مختلفة .
وضع الأوراق وبجانبها الأقلام على الطاولة المعدنية الصغيرة ثم ارتدى منظاره الطبى وصاح فى النادل لإحضار فنجان ثان من القهوة الغامقة كى تساعده على مهمته المقدسة، فقد قرر منذ فترة أن يكتب مذكراته واختمرت الفكرة فى ليلته الماضية فأقضّت مضجعه وأطارت النوم من عينيه.
جاء النادل بالقهوة على صينية من الصفيح الصدئ وبجوار الفنجان كوب من الماء، أمسكه بيديه فوجده ماء فاترا ..
= ايه ده يابنى الميه عادية فين المية الساقعة؟
أنت طلبت فنجان قهوة من شوية وكان معاه كوباية ميه ساقعة، احنا بنزل للزبون مية ساقعة مرة واحدة ودى سياسة القهوة وتعليمات صاحبها . قالها النادل رافعا رأسه فى شموخ غريب كقائد عسكرى على أعتاب قرار مصيرى .
= طيب متأففا . أنا غلطان يا سيدى .
ممكن أسألك من غير مؤاخذة أو زعل ؟
= اتفضل واخلص بسرعة .
أنت بتعمل إيه بالورق ده؟
= نويت أكتب مذكراتى .
اللى هى إيه بالصلاة ع النبى ؟
= مذكراتى؟ يعنى يومياتى يعنى الأحداث والمواقف التى مررت بها فى حياتى .
على وجهه ضحكة غامضة: تؤمر بحاجة تانى ؟
= شكرا ..
أخذ رشفة كبيرة أتت على أكثر من نصف فنجان القهوة ثم اختار قلما أزرق الخط وأسند مرفقه للطاولة المعدنية وبدأ يومياته بتعريف نفسه: أنا .... ثم توقف وأغمض عينيه بحثا عن نقطة بداية ينطلق منها . غفا وأخذته سنة من نوم لم يعمل لها حسابا وأفاق على صوت النادل يطالبه بالحساب وهو ينظر للورق وكلمة "أنا" تقبع يمين الورقة من أعلى كذبابة تحط برخامتها على وجه زبون بمقهى شعبى وتأبى أن تفارقه .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة