"إنهم يشبهون النيل فى كرمه وسخائه".. هكذا وصف شيخ المؤرخين المصريين تقى الدين المقريزى أهل النوبة الذين يتميزون بكرمهم وبهجتهم وطيبتهم، وتظهر كل هذه الصفات فى أفراحهم المميزة، التى تشع بهجة فى كل طقوسها ومراحلها، فهم أكثر المصريين حرصًا على الاستمتاع بالفرح، وابتكار تفانين خاصة مستمدة من نشأتهم على ضفاف النيل بين الخضرة الممتدة والصحارى الساحرة.
وتختلف طقوس الأفراح بالنوبة الحديثة عن النوبة القديمة- قبل بناء السد العالى وغرق القرى النوبية وتهجير الأهالى منها- كما تختلف فى القاهرة والمحافظات عن موطنهم الأصلى ببلاد الذهب، فبعضهم جاء إلى العاصمة محملا بالكثير من الذكريات والعادات والتقاليد التى يحتفظون بها ويورثونها للأجيال الجديدة، غير أن إقامتهم بالقاهرة وضعت بعض الرتوش على أفراحهم لتختلف بعض الاختلافات عن أفراح النوبة القديمة.
فى الملف التالى نصحبكم فى رحلة بهجة نتعرف فيها على طقوس أفراح أهل النوبة وعاداتهم فى الزواج.
الزواج من نفس العائلة أو من خارجها.. زواج النوبيين زمان والآن
جرى العرف بالنوبة القديمة على ألا يخرج الزواج عن نطاق العائلة، فالفتاة تتزوج من ابن عمها، وإن لم يكن لديها ابن عم فابن خالها، وبأى حال من الأحوال لا يجوز أن تتزوج من خارج العائلة، وهذا ما أكده رمضان عبده حسب الشهير «بجابر البابا» مواليد 1936، وأحد أكبر النوبيين المقيمين بالقاهرة.
ويتابع «البابا» قائلا: «أنا عندى أخت ومكنش ينفع أتجوز من برا، وإلا هتبقى عيبة فى حقها، وهتأثر على جوازها، فكنا بنرضى بالواقع ومن صغرنا معروف فلان هيتجوز فلانة»، وأضاف: «أما الآن فالأمر أصبح أكثر مرونة ولم يعد الأمر محصورا فى الزواج من نفس العائلة، فيجوز الزواج من قرية أو محافظة أخرى وكل شىء أصبح بالتراضى».
احتفالات سبعة أيام بعد الموافقة على العريس
ويضيف «البابا»: الزواج الآن طقوسه اختلفت عن زمان، ففى السابق وبمجرد الموافقة على العريس تمتد الاحتفالات سبعة أيام، وكل يوم له مسمى مثل حصاد القمح، وتجهيز البيت، وهكذا ليعيش أهل العروسين أياما جميلة معا يملؤها الحب والترابط.
فيما يقول محمد صابر، أحد النوبيين المنتمين لقرية أبو سمبل بمركز نصر النوبة، إن خطبة أهل النوبة الآن لا تختلف عن أفراح القاهرة فى الخطبة، موضحًا: «عشت جزءا كبيرا من حياتى فى النوبة القديمة ثم سافرت إلى القاهرة للدراسة وعدت إلى النوبة مرة أخرى إلى أن استقر بى الحال فى العاصمة وفقا لظروف عملى، وهذا جعلنى شاهدا حيا على اختلاف حياة النوبيين قديما والآن بأسوان والقاهرة.
الذهب قبل "العفش" فى عرف أهل بلاد الذهب
الشبكة فى النوبة من أهم تحضيرات العرس، وعلى العريس أن يقدم لعروسه هو وأهله هدايا ذهبية كثيرة، لا تقل عن «صينيتين ذهب» وهذا ما كان متبعا فى الماضى والحاضر ببعض القرى النوبية.إلا أن السائد فى شبكة النوبيين المقيمين بالقاهرة لا يختلف عن غيرهم، وقد تكون «دبلة وخاتم» أو وفقًا لاتفاق العريس ومقدرته المادية.
وأخت العريس يجب أن تحضر للعروس هدية من ذهب، كما أن أهل العروس يجب أن يشترون بعض الذهب لابنتهم، حيث إن الذهب أساسى قبل «العفش».
التجهيزات.. التقيل على العريس والخفيف على العروسة
البساطة تسيطر على حياتهم سواء فى القرى أو المدن، ففى بلاد النوبة قد يعيش العريس وعروسه فى منزل العائلة، بعد تخصيص غرفة لهما، قد يفرشها هو أو والدته دون أن تتحمل العروس أى أعباء، إضافة على غرفة أخرى لاستقبال الضيوف.
ومع تطور الحياة أصبح للعروسين منزلهما الخاص، الذى يتولى العريس تجهيزه، أما العروس فتتولى التجهيزات الخفيفة به من تنجيد وأدوات يطلق عليها "العفش الرفيع".
أما فى القاهرة فبعد أن أصبحت المرأة عاملة، أصبح هناك نوع من المشاركة فى التجهيزات، بالتراضى بين العروسين وأسرتيهما.
المهر ثابت 21 جنيها.. 15 مقدم و6 مؤخر
وننتقل من مرحلة التعارف والخطوبة، إلى مرحلة الاتفاقات التى تعد النقطة المهمة فى الزواج، والنوبيون المهر لديهم ثابت منذ عشرات السنين وهو 21 جنيها فقط، كما أكد سعيد سمير صبرى، رئيس جمعية أبوسمبل بالقاهرة، الذى أشار إلى أن هذه القيمة سائدة منذ قديم الأزل فالمهر 21 جنيها، مقسمة بين 15 جنيها مقدم، وستة جنيهات مؤخر فى حالة الانفصال، دون أن يعلم أحد سر تحديد الـ21 جنيها كمهر ولكنه عرف ساد منذ قديم الأزل وتوارثته الأجيال.
الشيلة هدية العروسة
وفى العرف السائد بين أهل النوبة سواء فى قراهم أو فى القاهرة يشترى العريس لعروسه ملابس تحت مسمى «الشيلة»، وهى عبارة عن حقيبة كبيرة تضم ملابس خاصة بالعروس مقسمة بين الملابس الداخلية والخارجية، ويقوم العريس بإهدائها لعروسه قبل الزفاف، ويتوقف حجمها على الحالة المادية للعريس.
القائمة والمحاكم خارج حسابات النوبيين
ومن أهم الأشياء التى اتفق عليها النوبيون وجعلوا منها دستورا لهم، عدم الاعتراف بقائمة المنقولات التى يتمسك بها أهالى باقى المحافظات، حيث يرى النوبيون أن القائمة تتسبب فى العديد من المشكلات، فضلا عن أن الزوج هو صاحب الجزء الأكبر فى التجهيزات.
وفى حالة عدم الوفاق بين العروسين أو الزوجين يتم اللجوء إلى حكمين من العائلة، لحل المشكلات بالتراضى دون اللجوء إلى محاكم، التى لا يعرفها العرف، فالجمعية ومشايخ القرية وكبارها هم أصحاب الكلمة الفاصلة فى أى نزاع، كما أكد سمير صبرى رئيس جمعية أبوسمبل بالقاهرة.
"كعك وبسكويت" بأيادى أهل القرية
ويمثل يوم تحضير الحلويات من كعك وبسكويت أحد الأيام المهمة فى حياة أسرة العروسين، حيث يسبق ذلك يوم العرس ببضعة أيام، ويجتمع فيه أهل القرية بأكملها لتحضير الحلوى للعروسين مع الاستماع إلى الأغانى النوبية الجميلة بموسيقاها البسيطة.
كتب الكتاب من المسجد للجمعية
أما عن كتب الكتاب فى بلاد النوبة، ففى أغلب الأوقات يتم عقد القران قبل أسبوع من الزفاف، فى منزل أحد العروسين، بينما يكون الإشهار فى المسجد، أما فى القاهرة والإسكندرية، فبعد عقد القران بالمنزل يتم الإشهار فى «الجمعية»، حيث يؤسس أهالى كل قرية نوبية جمعية خاصة بهم ويكون الإشهار بحضور أغلب أهالى القرية فى المحافظة.
مجمع النوبيين بالقاهرة والإسكندرية
ويتمثل دور الجمعية فى ربط النوبيين ببعضهم وببلدهم، ومناقشة الآمال والآلام المشتركة، فلكل قرية من قرى النوبة البالغ عددها 44 قرية جمعية أو أكثر، تجمع شمل جميع أبناء القرية الواحدة، ولها فرعان، أحدهما بالقاهرة، والثانى بالإسكندرية نظرًا لكثرة أعداد النوبيين بهما.
ويقول سمير سعيد صبرى، رئيس جمعية أبوسمبل، إن الهدف من الجمعية ضمان التكافل الاجتماعى بين النوبيين، فأبناء القرية الواحدة أعضاء تحتضنهم جمعية تختص بإشهار عقود القران والتأبين وواجبات العزاء والعمل الخيرى.
وتنقسم جمعية أبوسمبل، إلى ثمانى لجان أولها لرعاية المرضى والثانية للمساعدات الاجتماعية، كما يوجد لجان أخرى للرياضة، والشباب والأنشطة، والثقافة، وكذلك اللجنة النسائية ورئيستها امرأة لكونها أكثر دراية بالسيدات وتقيم لهن المعارض الخاصة بالمشغولات اليدوية، كما تناقش مشاكلهن.
وتلعب الجمعية بذلك دورا كبيرا فى حياة النوبيين المقيمين بالقاهرة أو الإسكندرية، فبعد كتب الكتاب بالمسجد أو المنزل يبقى شرط الإشهار بالجمعية أحد أهم التقاليد النوبية، فيلتف رجال القرية فيها، على أن يكون للعريس وكيل وللعروس ولى ليشهرا زواجهما وسط حضور جميع الأهل والأقارب من الرجال، فيما تبقى النساء فى المنازل للإعداد للزفاف.
"الحنة" تبدأ بذبيحة الصباح الباكر وتناول اللحوم طوال اليوم
وجرت العادة فى النوبة القديمة على أن يوم وليلة الحنة مميزان، فيبدأ العريس يومه فى الصباح الباكر بتقديم «ذبيحة» قد تكون ماشية أو أغنام على أن يحضرها كل أهل القرية، وهذا يحدث فى القاهرة أيضًا ويتم فى منزل العروس أيضا.
ويكون الذبح فى الصباح الباكر يوم الحنة، حيث يتم تناول اللحوم فى الإفطار، بإعداد وجبة «الكشاد»، وهى عبارة عن كبد مطبوخة بشكل معين، وبجانبها أطباق الجبن والمربى والفول، وبعد الانتهاء منها يتم تقديم الشاى والبسكوت والشعرية التى يتم إعدادها ضمن حلويات الفرح ويضاف لها اللبن.
وخلال الغذاء يتم تقديم جزء من «الذبيحة» وأكلة نوبية اسمها «الاتر» شبيهة بالملوخية،، وبعد الساعة التاسعة مساءً يكون العشاء عبارة عما تبقى من «الذبيحة»، وهذا العرف متبع فى النوبة والقاهرة.
بأمر القبيلة "حنة العروسين" على البورش
ومن الطقوس النوبية القديمة والمتبعة حتى الآن فى قرى النوبة، إقامة حنة العريس والعروس فى مكان واحد وجلوسهم على «البورش» وهو عبارة عن بساط مصنوع من الخوص، وتقوم النساء المسنات بوضع الحنة لهما وكل هذا وسط الأجواء الاحتفالية من رقص على الأغانى النوبية والسودانية العريقة.
ويختلف الأمر بعض الشىء فى القاهرة، حيث يكون للعريس حنته الخاصة فيما يكون للعرس حنة مستقلة بها وسط احتفالات كبرى ومميزة بالغناء والرقص النوبى المبهج.
طقوس وضع "الحنة" للعريس.. البداية بالأنف والجبهة لمنع الحسد
وللحنة طقوس خاصة فى وضعها للعروسين، فتبدأ المرأة العجوز «الحنانة» بوضعها على أنف العريس ليشم رائحتها ويتذكر تلك اللحظات جيداً فيما بعد، حيث إن حاسة الشم من بين الأشياء التى يصعب على الذاكرة نسيانها فقد تنسى شخصا ولا تنسى رائحة عطره. ثم تضع العجوز الحنة على جبين العريس لمنع الحسد عنه، وفقاً للمعتقد النوبى القديم أن الحناء تمتص الأمور غير المحببة من طاقة كره أو حسد أو ما إلى ذلك ثم تقوم بعد ذلك بوضع الحنة بيد العريس وقدمه.
حمل العريس على الأعناق بعد نقش الحنة على قدميه
وبعد وضع الحنة على قدم العريس يقوم إخوته وأصدقاؤه المقربين بحمله على الأعناق والاحتفال به والرقص على الأغانى النوبية، ثم الذهاب به إلى منزله استعدادا ليوم عرس طويل يمتد حتى الساعة السادسة من صباح اليوم التالى.
الزفاف بين بركة مياه النيل والإقامة بمنزل العروس لمدة أسبوع
ويوم الفرح لا تخرج العروس إلى مكان الاحتفال، وتجلس فى مكان محدد داخل الغرفة التى ستتزوج بها فى بيت والدتها، ووقت العصارى يجهز العريس نفسه ويستحم فى النيل بصحبة أصدقائه، وذلك لارتباط النوبيين بالنيل على امتداد الـ44 قرية النوبية، وهذه العادة متبعة فى النوبة القديمة، حيث يرتدى العريس بعد ذلك ملابس العرس ويطعم المعازيم. وفى أغلب الأحيان تمتد الأفراح النوبية حتى السادسة صباحًا، وفى الصباح لا يدخل العريس البيت إلا بعد أن تأتى والدة العروس ومعها سلطانية بها لبن يشربه ويذهب لعروسه تبركًا بسنة النبى صلى الله عليه وسلم.
ويكشف العريس وجه العروس ويجلس معها فترة وجيزة ثم يخرج لتناول الإفطار مع أصدقائه، ويدخل لزوجته بعدها لتبدأ حياتهما معاً. ويبقى العروسان بمنزل والدة العروس لمدة سبعة أيام، وفى اليوم السابع تقام زفة أخرى لنقل العروسين إلى منزلهما.
الصباحية ثالث يوم الفرح
ومنذ قديم الأزل يحتفل النوبيون بالصباحية ثالث يوم الفرح، حيث يتم تشغيل الأغانى ويجتمع الأهل، ويتناول العروسان وجبة من الألبان والعيش، ويكون طعامهما على مدار الأيام الثلاثة الأول عبارة عن حمام ومنتجات ألبان تعدها والدة العريس، وكذلك أم العروس حيث تجهز وجبات غذائية من البلح والألبان، إضافة إلى الحلويات والكحك والبسكوت.
احتفالات وزفة السبوع المقدسة
ويقيم النوبيون احتفالا خاصا يوم السبوع، حيث يأتى كل فرد من أهل العريس والعروس محملا بالهدايا من قمح، وأرز، وأرانب، ودجاج، وغيرها من مواد غذائية ولحوم وخزين المنزل، استعدادا لانتقال العروسين إلى منزلهما بعد أسبوع قضاه الزوجان فى منزل والد العروسة، وهذه الطقوس كان يتم اتباعها فى النوبة القديمة، بينما يختلف الأمر فى أفراح أهالى النوبة بالقاهرة بعض الشىء، فلا يستحم العريس بمياه النيل.
كما أن الهدايا فى السبوع من الأهل والأقارب فى القاهرة والنوبة اختلفت عما سبق، وأصبح الكثير من أهل العروسين يستبدل المواد الغذائية بالنقود، بينما تكون نقطة العروس والهدايا المقدمة لها فى زفافها من الذهب، وهى الهدايا التى تقدمها الأم والأب والخالات والعمات وهى عبارة عن سلاسل، وغوايش، وانسيالات، أما صديقات العروس ومعارفها فيهدونها خواتم ذهبية، إضافة إلى أن بعض الأفراح يقوم أهل العريس بتوزيع جنيهات ذهبية على المعازيم.
فرح أمير ودلال فى عابدين.. حنة وزفة نوبى لتسعة الصبح.. الزواج جمع بينهما رغم اختلاف اللهجة والقبيلة.. وانتظر العريس أياما للحصول على موافقة أهل العروس
فى تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، تجمع مئات البشر فى شارع طويل مزين بالأضواء الملونة بمنطقة عابدين، الكل يستعد لبهجة من نوع خاص، السكان ينظرون وينتظرون فى شرفات المنازل لمشاهدة هذا الحدث المبهج، فيما ارتفعت أصوات الأغانى النوبية بنغماتها الرقيقة، واستمتع الحضور وأهل المنطقة بصوت مطرب يقف على المسرح على الرغم من أن البعض لا يفهمون كل كلمات الأغانى.
وفجأة حانت اللحظة المنتظرة بوصول سيارة بيضاء اللون، اتجه نحوها كل الحضور بشمسيات جميلة ملونة يلوحون بها ويرقصون فى صورة منظمة بديعة كأسراب حمام تطوف بالعروسين.
كل من رأى المشهد شعر أنه موكب ملكى جاء يحمل البهجة، خاصة حين خرجت من السيارة عروس تبدو كملكة متوجة بتاج يتلألأ وفستان أبيض، تتشابك يدها مع يد فارس أسمر يرتدى بدلة زرقاء أنيقة، لتبدأ مراسم وطقوس الفرح النوبى فى قلب القاهرة، حيث حضر أهل الجنوب بعاداتهم القديمة وطقوسهم التى تعبر عنهم، فالشمسيات ترمز لطبيعة بيئتهم المشمسة دائما وفرحتهم الجماعية وعلاقاتهم الوثيقة، ويزخرفون الفرحة بابتسامات وضحكات من القلب وبألوان جميلة تملأ المكان.
ووسط فرحة الأهل فى هذا اليوم الذى طال انتظاره يتذكر العروسان «أمير ودلال» نفس الأجواء التى رأى فيها كل منهما الآخر لأول مرة، حيث كانا يحضران فرحا نوبيا سابقا، ورأى العريس عروسه على بعد خطوات، فخطفت قلبه دون أن يستطيع التحدث معها، ولكنه تمكن من اختلاس النظرات إليها وإرسال ابتسامات الإعجاب، وتمنى أن تكون شريكة حياته.
دبلة الخطوبة تجمع أمير ودلال رغم اختلاف اللهجة والقبيلة
وهنا بدأت قصة حب أمير ودلال التى عايشنا تفاصيل جزء منها، وهى الفترة من يوم كتب الكتاب و«الحنة» وحتى الفرح.
فبعد اللقاء الأول واشتعال شرارة الحب، سأل أمير عن عائلة دلال التى تسكن فى محافظة السويس، بينما يسكن هو فى القاهرة، وتقدم لخطبتها، رغم اختلاف قبيلته عن قبليتها، وعدم اشتراكهما فى لغة نوبية واحدة، فهو «فدجيكى» وهى «كنزية»، وجمعتهما اللغة العربية التى تواصل بها مع أهلها، وانتظر أمير لأيام ليحصل على موافقة أهل العروس.
وافقت دلال ولم يكذّب أمير الخبر وسارع ليجمع أهله لإتمام الخطبة، دون أن يتمكن من الجلوس مع العروس ولو لمرة واحدة قبل إتمام الخطبة طبقا للعادات النوبية.
وكان يوم الخطبة أول مرة يجلس فيها العريس مع عروسه، ليضع فى يدها دبلته، وسط فرحة غامرة جمعت العائلتين وبعض الأصدقاء المقربين، وأحضر العريس معه «محبس وخاتم» وساعة، حتى تُذكرها بكل دقيقة مرت عليهما معا.
يكشف أمير تفاصيل ارتباطه بدلال على الطريقة النوبية، حيث كانت الزيارات والخروجات فى حدود سنة كاملة، ولها شروطها التى تستوجب وجود فرد من أسرتها خلال أى لقاء أو خروجة، بينما يزور العريس خطيبته فى كل المناسبات وسط أهلها.
ويعبر أمير عن مشاعره خلال هذه الفترة، قائلا: «لم أشعر بضيق من عاداتنا بل على العكس احترمتها وأعتز بها مهما عشت فى القاهرة لأن النوبة فى قلبى دائما».
وأضاف: «كنت أفهم دلال فقط من نظراتها، وتأكدت يوما بعد آخر أننى التقيت بتوأم روحى الذى يكملنى، رغم أنه تحيط بنا الكثير من الاختلافات، ومنها اختلاف اللغة واللهجة النوبية بين قبيلتى وقبيلتها، ولكن جمعتنا اللغة العربية، كما كمل كل منا ما حرم منه الآخر، حيث كانت دلال يتيمة الأم، وأنا يتيم الأب، فأصبحت أمى أما لها وأبوها أبا لى».
وتابع: «دلال لديها ثلاث أخوات بنات، بينما أنا لى ثلاث إخوة بنين، وفى كل هذه الأمور اعتبرنا أن كلا منا يكمل الآخر».
الإشهار فى الجمعية للرجال فقط بدون حضور العروسة
بدأت مراسم كتب الكتاب بعد صلاة العشاء، حيث تجمع رجال العائلتين فى «الجمعية النوبية» وهى عبارة عن شقة كبيرة فى أحد شوارع عابدين تحمل اسم «جمعية أبوسمبل»، والتى يكون فيها إشهار عقد القران بحضور الرجال دون النساء وحتى العروسة، فالجمعية غرفة واسعة تختص بكل تفاصيل وأنشطة النوبيين المقيمين فى القاهرة.
وأكد والد العروسة أنه تم عقد القران قبل هذا اليوم بأسبوع، حيث حضرت العروسة والعريس وتم كتب الكتاب بين العائلتين والأصدقاء المقربين فقط فى منزل العروس، ولكن كتب الكتاب فى الجمعية أساسى لإتمام هذا الزواج وإشهاره بين التجمعات النوبية بالقاهرة.
فيما كان ولى العريس فى كتب الكتاب جده «الحاج عبده» لأن والده متوفى، وبدأ اليوم بعرض الدعوة للأفراح المقبلة فى الجمعية من خلال مكبر الصوت، ووضع الدعوات على لوحة كبيرة معلقة على أحد الحوائط ثم بدأت تفاصيل الإشهار المعتادة، استعدادا لاستكمال اليوم بطقوس الحنة التى تنتظر العريس بصحبة أهل النوبة.
الحنة رقص وغناء وفرحة ودموع اشتياق
فى هذا الوقت، كانت العروس فى السويس تزور والدتها المتوفاة فى المقابر، ولم تقم حفلا خاصا لـ«الحنة» واكتفت برسم الحنة مع صديقاتها وقريباتها بالمنزل.
وعن مشاعرها قالت: «كنت أتمنى وجود أمى فى هذه اللحظات وذهبت إليها لأكون بقربها ولا أفوت عليها رؤيتى وأنا عروس، فأنا أشعر بوجودها حولى عندما أكون بالقرب من قبرها».
أما فى منزل العريس فكانت تجهيزات «الحنة» على أشدها.. أنوار لامعة وسجاجيد حمراء تملأ الشارع، وكراسى مرصوصة على الجانبين فضلا عن عشاء كبير للمعازيم أقامه العريس.
بينما ترتفع أصوات الفرقة النوبية ودق الطبول والدفوف، وبدأ الاحتفال بأغانى السفين «الأناشيد الدينية والمدح» لأحد فنانى النوبة المعروفين لدى كل أبنائها وهو الفنان محمد يوسف.
واستمرت الفقرات بالرقص النوبى، كما شارك فى الحفل مطربون من السودان واستمرت الاحتفالات حتى ساعات متأخرة من الليل وكانت فقرة وضع الحنة للعريس آخر طقوس هذه الليلة.
ووسط الحشود التى حضرت لمشاركة العريس الاحتفال بالحنة، وبينما تقوم عمته بحمل صينية الحنة المزينة بالشموع فى منتصف الشارع، تساقطت دموع العريس فرحا وهى تضع قطعة من الحنة على أنفه كما هو معتاد لتترك له هذه الرائحة ذكرى لهذا اليوم المميز، ثم وضعت العمة لمسة على جبينه لمنع الحسد، ثم أكملت مهمتها بوضع الحنة على يديه وقدميه.
وعن سبب دموعه، قال العريس: «إن هذه الدموع تمثل الفرحة والاشتياق معا، حيث شعر برغبة عارمة لوجود والده رحمه الله بجانبه فى تلك اللحظات، واشتياق حقيقى لأخيه الذى منعته ظروف عمله فى الخارج عن مشاركته هذه الفرحة»، مؤكدا أن هذه اللحظة من أهم وأسعد أوقات حياته على الإطلاق.
طرابيش وشماسى وألوان وفرح من الثانية للتاسعة صباحا
كل شىء أصبح جاهزا للاحتفال بالعرس، حيث اكتملت كل ترتيبات الشقة التى ستتحول لبيت الزوجية بعد ساعات، والتى تم تجهيزها وفقا للتقاليد النوبية، فتحمل العريس الجزء الأكبر بينما تتكلف العروس بالجزء الأقل الذى يشمل المطبخ والمفروشات، كما أحضر العريس شنطة العروس التى تحتوى على مختلف أنواع الملابس، وبالشارع الذى تعيش به والدته نصبت مراسم العرس ووضعت الكراسى والمسرح والكوشة وكل شىء استعدادا للاحتفال الكبير بأمير ودلال.
وقبل وصول العروسين تجمع الأهل والأقارب والمعارف بطول الشارع حاملين الطرابيش والشمسيات والعصى البلاستيك الملونة التى تعد هى أيضا من أدوات الاحتفال المميزة لدى النوبيين، وارتدت السيدات الأزياء النوبية المزركشة بألوان الفرحة، واستمرت نغمات الموسيقى والأغانى النوبية التى تنوعت بين اللغتين «الكنزية» و«الفدجيكية» لتلائم كل الحضور من العائلتين، وتوالت الفرق النوبية فى تقديم عروضها طوال ساعات الليل، حيث استمر الفرح من الساعة الثانية بعد منتصف الليل إلى الساعة التاسعة صباحا.
فيما رقص العريس مع عروسه لبعض الوقت، بينما كانت معظم الرقصات لسيدات فقط مع العروس أو لرجال فقط مع العريس فى ساحة الشارع الكبيرة، والتى فرشت بالسجاجيد العريضة، وقدم العريس الشبكة التى احتوت على أساور وسلسلة ذهبية وسط زغاريد أهالى العروسين.
وفى منتصف العرس وقبل طلوع فجر يوم جديد، ذهبت العروس لتغيير فستان الفرح بآخر، وعند سؤالها عن السبب، قالت دلال: «هذه ليست طقوسا نوبية ولكنى أردت التميز بارتداء فستانين فى فرحى وشعورى خلال هذه الساعات لن يتكرر أبدا».
أما العريس فكانت مفاجأته التى اكتملت بها فرحته فى هذا اليوم ما فعله أخوه الذى حضر الفرح دون أن يخبر أحد مسبقا، فتحققت أمنية أمير التى تمناها، واحتضن العريس شقيقه ورقصا معا فى مشهد مؤثر أدخل مزيدا من البهجة والفرح فى النفوس.
العدد اليومى
العدد اليومى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة