فى مصر والعالم لعبت المقاهى أدواراُ سياسية وثقافية وأدبية واجتماعية، لكننا لم نؤرخ لها الآن بصورة جيدة، كامل رحومة مثقف مصرى يعيش فى دمنهور أسس جمعية (عبدالوهاب المسيرى لتنمية الفنون و الآداب) من دمنهور ألف كتاباً هاماً هو "المقاهى الثقافية...القاهرة...باريس...دمنهور" هنا يفاجئنا المؤلف بأن هناك حراك ثقافى قوى فى مقاهى مصر خارج العاصمة ومن هذه المقاهي:
"مقهى نيو سوريا" بالسويس .. لصاحبه ومؤسسه المثقف العصامى “يحيى محمود عارف" الشهير ب "ابن بطوطة"، لكثرة أسفاره، وهو صديق للعديد من رجال الفكر والثقافة فى مصر، الذين كانوا يلبون دعوته دائماً، ومنهم: الأديب الكبير "يحيى الطاهر عبدالله" والمقهى يقع فى قلب حى السويس منذ (1978م)، بجوار أشهر مساجد المدينة(مسجد الشهداء) الذى لعب دوراً كبيراً فى المقاومة الشعبية فى حرب (أكتوبر 1973م)، والمقهى يقع فى محيط جغرافى يضم أهم المؤسسات الحكومية والتجارية بالسويس، وهو قريب من ميدان النافورة الذى شهد العديد من الأنشطة السياسية والثقافية. ويرتاد المقهى لفيف من رموز السويس الثقافية والفكرية مثل الشاعر الكبير "الكابتن غزالي" مؤسس فرقة "ولاد الأرض" والمثقف الموسوعى "سيد نصير" والفنان التشكيلى الشهير "أ.د على السويسي" ومؤرخ السويس المعروف "حسين العشي" صاحب كتاب" خفايا حصار السويس" والروائى "رضا صالح" والمترجم "محمد أبو بكر النيفياوي" والشاعر والناقد "صلاح نجم".
وكان من الرواد شاعر العامية الراحل "كامل عيد رمضان" مؤلف أغنية "باريس البحرية يا مصر" التى غناها المطرب "محمد قنديل".
وللمقهى تاريخ عريق فى المشاركة فى الأحداث السياسية عبر العقود الماضية، فما بين |احتفالية "ثورة 23 يوليه" وبين مناصرة القضية الفلسطينية فى السبعينيات، إلى معارضة نظام مبارك وكذا المشاركة فى "ثورة 25 يناير" التى قال عنها صاحب المقهى (المعلم يحيي): " الواحد يقدر يموت وهو مطمن"، وقد صدقت أمنيته ووافته المنية بعدها بفترة وجيزة فى شهر (يونيو 2011م).
"مقهى السنديون" بفوه_كفر الشيخ.. على الجانب الآخر من النهر لمحافظة البحيرة تتربع "مقهى السنديون" الأدبى على فرع النيل المؤدى إلى رشيد، وهو مقهى قريب من أهم حاضرة له" دمنهور" لقربها المكاني، مما كان له الأثر بالتأثر الثقافى من البيئة الثقافية الكبرى التى خلفها "مقهى عبدالمعطى المسيري".
"مقهى القللى" بالفيوم.. والمشهور بكونه ملتقى للفنانين والأدباء ، وهو مازال إلى الآن شاخصاً فى مكانه. هو المقهى الذى قال عنه المرحوم الشاعر "صلاح جاد" سنة (2007م) قصيدته (القللي) التى ينهيها بما يقول: "لعله الآن.. هناك فى المقهى ينتظر عودتنا ليضحك .. ويحكي". والمقهى أول من دشن فكرة "مسرح المقاهي" التى انتشرت فى كثير من مقاهى المحروسة، ومن فرقها "فرقة المختبر المصري".
"مقهى عبد اللاه قناوى" بالمنيا.. وبدايته كانت فى نهاية الستينيات من العقد المنفرط، وهو عبارة عن حديقة كثيفة الأشجار ويطل المقهى على أحد روافد نهر النيل(الخور)، وقد كان مكاناً ارستقراطياً فى بدايته يتم فيه استقطاب كبار الموظفين من البحراوية المغضوب عليهم بنفيهم إلى مدينة قنا، وكانوا يسمونه آنذاك: "كازينو".
وعلى بعد خطوات من المقهى كانت توجد مكتبة صغيرة للغاية، اسمها "رباب"، كان يستأجرها شاعر شاب اسمه "أمجد ريان"، وكان يجتمع فيها أدباء جيله مثل: "سيد عبد العاطي" و"عطيه حسن" و "حمدى منصور" وغيرهم، وقد التحق بهم بعض الشبان وقتها، وأطلقوا على أنفسهم "جماعة رباب" كأول جمعية أدبية تظهر فى الصعيد، وقد أصدرت مجلة تحمل نفس الاسم. كما تكونت فى نفس المكان فيما بعد "جماعة أفراس الأدبية" المعتنية بالقراءة، وكانت مشروعاً ثقافياً، ظهرت آثاره فى مجلة حملت نفس الاسم.
لكن المؤلف يفرد جانباً هاماً من كتابه لمقهى عبدالمعطى المسيرى بدمنهور، مركز على شهادة الدكتور عبدالوهاب المسيرى عن هذا المقهى إذ يقول: وظاهرة "مقهى المسيرى"، ما كانت لتغيب على رجل مثل "د. عبد الوهاب المسيري" أن يصوغ لها وصفاً ولو مختصراً فى سيرته الذاتية الأشهر "رحلتى الفكرية"، بصفته أهم معالم دمنهور الثقافية فى إبان شبابه، وقد ساهم مساهمة فعالة فى ظهور كثير من المبدعين والمثقفين، بل والمجددين فى القرن السابق، وكذا القرن الحالي. ولقد تحدث فى سيرته " رحلتى الفكرية" عن الفعاليات بالمقهى، وعن المشاهير الذين التقى بهم هناك.\ومما قال فى ذلك: " ومن معالم دمنهور الأساسية "مقهى المسيري" لصاحبه الأستاذ عبد المعطى المسيري_ رحمه الله_ ترددت عليها مرة أو مرتين قبل دخول الجامعة وجلست على هامش جماعة الشعراء والفنانين والقصاصين والمفكرين والمثقفين ومحبى الثقافة، وبعد دخولى الجامعة، أصبحت عضواً أساسياً فى تلك الجامعة التى كانت تلتقى فى المقهى، فى جو كله مودة ودون أستقطابات أيدولوجية ودون خوف أو وجل من التجريب أو الخطأ؛ فالمرء أمام أصدقائه لا يدعى ولا يضطر إلى موازنة الأمور، بل يعبر عما بداخله فى جرأة، وهو يعرف أن ما سيقوله سيقابل إما بالإعجاب و إما بالضحك والسخرية، وسخرية الأصدقاء، مفعمة بالحب (على عكس المؤتمرات العامة التى أصبحت فضاءات زمنية ومساحات مكانية تلقى فيها أوراق طويلة تسمى "بحوث" أعدت بعناية مسبقاً، توثق فيها أحياناً البدهيات، أو يظل الباحث يوازن نفسه حتى لا يقول شيئاً! وهو يبذل قصارى جهده ألا يجرب و ألا يخطئ و ألا يترك ثغرة فى بحثه قد يحاسب عليها. وهو عادة ما يلقى بحثه أمام جمهرة من الأساتذة لا يعرفهم ولا يعرفونه وفى إطار جو من التربص العام!).
إن أى مؤلف لا يكتب(للناس جميعاً) وإنما لمجموعة محددة من البشر. وكل كاتب _فى تصوري_ يحتاج إلى جماعة من القراء تتوافر فيهم عدة شروط: أن يكونوا مهتمين بالقضية التى يتناولها وأن يكونوا على مستوى فكرى يمكنهم من الحكم على أعماله فلا يكيلوا المدح دون حساب أو مقياس، وإلا يكونوا من لحاسدين الحاقدين. مثل هؤلاء يمكنهم توجيه النقد للمؤلف داخل إطار من الصداقة والتقبل المبدئي، ويعطيه قدراً من الشرعية، فهذا يشد من أزره، والحوار الدافئ الذكى يولد فى نفسه الثقة فيزداد الإبداع.
ومن أطرف الأشياء أننى حينما كنت طالباً فى المدرسة الثانوية كنت كلما أرسلت خطاباً لإحدى الصحف، لأعبر عن إعجابى بشيء ما أو لأستنكر شيئاً ما، أفاجأ بأن خطابى يجد طريقه إلى النشر، بل ويعطى مكان الصدارة أحياناً. وكنت أحار لهذه الظاهرة، وكان زملائى فى المدرسة يفسرونها بأن أسلوبى أدبى راق، فكنت أصدقهم وترتفع معنوياتى وتزداد ثقتى بنفسي. إلى أن اكتشفت أن المسألة مجرد تشابه أسماء ، وأن كثيراً من محررى الصحف كان يظن أن عبدالوهاب المسيرى من دمنهور هو عبد المعطى المسيرى الأديب صاحب المقهى فى نفس المدينة!
وكان بيننا شاعر العامية حامد الأطمس والشاعر فتحى سعيد (رحمهما الله)، كما تعرفت على محمد صدقى كاتب القصة وعبد القادر حميدة وغيرهما. كان المقهى هو بيت الثقافة فى دمنهور. وكان أمين يوسف غراب يتردد عليه، وقيل لى إن يحى حقى ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهما من المشاهير من أبناء البحيرة وممن عملوا فيها كانوا من رواد هذا المقهى الأدبي.
ولكن بعد قيام ثورة يوليو، تسارعت عملية التحديث التى تتسم بظهور الدولة المركزية القوية، فانتقل الأستاذ عبد المعطى المسيرى وحامد الأطمس إلى القاهرة ليعملا فى المجلس الأعلى للفنون والآداب( ومع هذا استمر المقهى، وما يزال_ حسبما سمعت_ منتدى ثقافياً يتردد عليه المثقفون والفنانون). وللأسف مات الأستاذ عبد المعطى المسيرى مشلولاً عن الحركة، مشغولاً بهول الحدث، ولذا اختفى الأستاذ عبد المعطى من حياة الأدبية والعامة فجأة.
الكتاب الذى بين يدينا عمل مرجعى مهم به كذلك ببليوجرافيا لأشهر مقاهى الوطن العربى لذا فهو يستحق أن يُقرأ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة