فى عام ٢٠١٥ قرر والدى رحمه الله أن يزورنى فى منزلى و أن يقيم عندى للمرة الأولى و لمدة أسبوع ( بحاله) وكانت عادته الزيارة نهارا و السفر ليلا ، كان مختلفا طوال الزيارة وبختام الأسبوع سافر واحتضننى بقوة وأنا أودعه و قالها لى أبى الحازم الجاد للمرة الأولى فى حياته :- هتوحشينى ، فابتسمت وأنا أرى فى عينيه شيئا مجهولا لم أره من قبل ،،، أظنه كان الموت .
بعدها بأيام اتصلوا بى ليخبروننى بوفاته يوم الجمعة بعد صلاة العشاء مباشرة ،، وقتها تذكرت النظرة و الكلمات و كل شىء ،، وسافرنا وأنا لا أعلم كيف وصلت من القاهرة إلى مطروح لأننى كان كل ما أفعله بجانب البكاء ؛ هو الاتصال به عبر هاتفه لعله يجيب !!
حوالى ثمانين مكالمة وأكثر حتى سمعت رسالة ( الهاتف الذى طلبته ربما يكون مغلقا ) وكأنما أشفق على الهاتف و أراد أن يقنعنى بوفاته ،، وأنا التى ما اقتنعت حتى الآن،، وقد احتفظت بهذا الهاتف .
والآن دعنى أنقل لك شعورا جديدا عليك :-
أنت إذا مات والدك ، ستقف شاردا ، تائها ، متوقعا ظهوره مرة أخرى ، باحثا عنه فى الوجوه .. لأيام طويلة ،، ولن تجده .
ستظل مصدوما لفترة ، ثم مع الوقت ستفيق ، و ستتذكر كم أزعجته و كم نسيته و كم أضعت من الوقت بعيدا عنه ،، وستدرك كم أنت بائس و تعيس و وحيد ،، ستدرك كم أنت صغير فى هذه الحياة بعد أن رحل من كنت أنت كبيرا مهما به ،، وأحيانا عليه أيها المسكين .
سيأتيك من يزعجك وينغص حياتك و ستقابل ما يضيق به صدرك ،، لكنك لن تجد من تسند إليه ظهرك مرتاحا مستقيما ،، وستفقد الرأى الصائب الخبير القويم الذى طالما لم تأخذ به أيها الغبى الأرعن ،،، ستكتشف وقتها أن والدك كان سندك الحقيقى فى الحياة حتى وإن كان مسنا ،، لقد كان دعمك الواقعى بانفعاله وحدته و حزمه و اختياراته التى لم تعجب معاليك و طباعه التى كنت لا تتفهمها أحيانا ،،، لقد كان يبنيك و يرى ما لا ترى أيها الصغير ،، و ستفهم وقتها جملة ( انكسر ظهرك ) .
ستلجأ إلى أمك ، الشخص الأكثر تحملا لانفعالك ، الأكثر تقبلا لجفاءك المبرر ، الأكثر حبا لك حتى تمنى الموت و المرض بدلا منك ،، ستذهب صاغرا إلى الشخص الأكثر حنانا و رحمة و عطفا أمام جمودك و غبائك و أمراضك النفسية اللامحدودة .
ستجدها قد وهنت وأصابها من الكبر عتيا ؛؛ ستتصل بها تليفونيا مرة للاطمئنان ،، و ستزورها مرة لأنك مشغول ،، ستسمع نصيحتها مرة لأنك عبقرى زمانك ،، ستنفعل عليها أحيانا حين ترى ما لا يعجبك ذلك لأن صوتك عال و جهورى و قوى ،، لأنك طويل القامة وممشوق ،، وسترحل هى أيضا قبل أن تنهل منها حد الارتواء ..
هذا حال أغلبية كبيرة من البشر ، بل و هناك أنواع قد أقول عنها ما يدمى القلب أكثر ،، و قد أحدثكم عن بر الوالدين و فضله كثيرا ،، وقد أطرح أذكركم بدائرة الزمن التى ستعيد نفسها مع أبنائك الذين سيقدمون لك ما قدمت لوالديك ،، لكننى سأكتب هنا ما قد تفهمه أنانيتنا أكثر .
عزيزى / عزيزتى . الناضج الكبير الواع المسئول :-
- نحن بعد رحيل الأم و الأب الخاسر الأكبر ،، ذلك أننا سنحتاج يوما إلى من يسمع شكوانا ،، إلى من يربت على أكتافنا ،، إلى من يدعو الله لنا بالنجاة و السلامة و الستر ،، إلى من يتحمل ضيقنا و سنفتقد بشدة من يفرح بصدق لنجاحنا و يرمم انكسار نفوسنا ، وفى مثل صدق الوالدين ؛ لن نجد .
فحاولوا أن تشبعوا أنتم من الحب و المشاعر الحقيقية قبل أن تغيب عنكم ،، لأنكم ستموتون جوعا وعطشا لقلب يحتوى مهاتراتكم و لنفس ترى أفضل ما فينا و تقنعنا بأننا أقوياء.
آباؤنا وأمهاتنا سيذهبون و سنبقى نحن هنا ؛ نرى فى هذه الحياة ما يقتلنا و نبقى أحياء ،، من أذى المقربين و جحود الأبناء و صراع الأشقاء و غيرة الأصدقاء و ابتعاد المحبين و فراق الأهل و الذكريات ،، باختصار سنكبر و ستغيرنا الحياة جميعا.
فأكثر عزيزى المشغول من الحديث معهما ،، من التقرب إليهما ،، احتضنهما وقبل أقدامهما و قل لهما أحبكما و زيدونى حبا قبل الفراق و الاشتياق ،، قل لهما الآن ،، حالا ،، فى هذه اللحظة ،، قل و افعل قبل أن يرحلا و تبقى وحيدا ، نكرة ، لا أحد يشعر بما فى قلبك ،، حتى وإن كنت مهما عظيما كبيرا ،، محاطا بالأبناء و الأصدقاء والمنتفعين ،، ستضيق عليك الأرض بما رحبت و لن تجد متسعا إلا حضن أمك و ستفتقد صوت والدك الناصح الأمين و ستبقى بعد أمك وأبيك وحيدا وحيدا وحيدا .
أما أنا ؛ فقد رحل أبى و أصبحت أخشى من تناقص الوقت مع أمى حفظها الله،، والسؤال :-
هل تشعر أنت بقيمة أمك و أبيك ؟ و هل أنت جاهز لرحيلهما المحتوم ؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة