يرتدى البدلة العسكرية ويقف إلى جوار جثمان والده البطل الشهيد فوق السيارة التى تحمله إلى مثواه الأخير ، يهتز قلب الطفل الذى لم يتعد عمره تسع سنوات وهو يحاول التماسك والسيطرة على دموعه ، رغبة جارفة فى البكاء والارتماء على الصندوق الذى يحمل جسد والده الطاهر، تنازعها رغبة أخرى فى أن يبدو أمام الجميع رجلا صغير يستطيع التماسك وأن يكون جديرا بكونه ابن البطل الشهيد أحمد المنسى قائد الكتيبة 103 صاعقة الذى طالما تحدث معه عن جهاده فى سيناء ضد أعداء الله والوطن ، وطالما سمع ممن حوله عن شجاعة وبسالة والده.
ما أقسى محاولة أن تبدو قويا فى أشد لحظات الضعف ، وما أقسى هذا الشعور على طفل يودع والده إلى مثواه الأخير ، ظل الطفل حمزة متماسكا حتى جلس فى المسجد إلى جوار جسد والده الذى يرقد داخل صندوق ، لم يتمالك الطفل دموعه ، فهذه هى نظرة الوداع ، وهذه هى المرة الأولى التى لا يفتح فيها والده ذراعيه ليأخذه فى حضنه ، لم يحتمل الطفل أن يرى جسد والده مسجى فى الصندوق ، انطلقت دموعه التى حاول مرارا السيطرة عليها ، أراد الطفل ووالدته أن تحمل بدلته العسكرية الصغيرة رسالة لكل الإرهابيين بأن مسيرة الأب ستستمر وأن البطل لم يمت ، وأن ابنه وأبناء الأبطال سيكملون الجهاد حتى يطهروا كل حبة رمل من نجاسة الإرهاب.
فى نفس الوقت كانت أم الشهيد مجند أحمد العربى الذى استشهد فى نفس الكتيبة تنتظر وصول جثمان ابنها الشهيد بقرية الباز بمحافظة دمياط وهى تحتضن إحدى الشهادات التى حصل عليها الشهيد أثناء خدمته العسكرية ، أطلقت الأم الزغاريد وهى تشيع فلذة كبدها إلى مثواه الأخير وأمرت شقيقاته بإطلاق الزغاريد ، واصفة نجلها بـ"العريس" ، أكدت أنه كان يحلم بالشهادة ويتمناها وطلب منهم عدم البكاء فى جنازته ، قالت الأم بفخر يمتزج بالحزن:" أنا أم البطل ، أنا أم الشهيد ، رفعت راسى يا أحمد وسط الخلق كلهم " ، ثم انطلقت الدموع من عينيها بعدما حاولت مرارا السيطرة عليها.
وبنفس القوة والفخر والإصرار قال والده :" الحمد لله ابنى مات شهيدا والموت علينا حق ويدركنا حيث نكون والشهادة أفضل مليون مرة من الموت على الفراش."
بكى وهو يحاول أن يبدو متماسكا قائلا :" كان نفسى أشوفه عريس والحمد لله شوفته أحلى وأغلى عريس ضحى بروحه علشان مصر".
وفى سوهاج قال والد الشهيد المجند محمود صبرى وهو يوارى جسد ابنه الثرى " أنا وباقى أبنائى وكل ما أملك فداء لمصر" ، وكان البطل الشهيد قد غير اسمه على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى " فيس بوك " إلى " شهيد تحت الطلب".
وكان الشهيد المجند على على إبراهيم ابن قرية الدغايدة بمحافظة الدقهلية من أسرة بسيطة تبيع والدته بعض الخضروات لتساعده فى تجهيزات الزواج وكان يعمل فى الإجازات لينتهى من تجهيز شقته ورغم ذلك كان يتمنى الشهادة ويفضلها على الزواج ، وحاولت والدته التماسك فى جنازته قائلة " ابنى مش خسارة فى مصر ".
أما الملازم أحمد محمد حسانين فكأنه كان يرى موعد استشهاده ويرى حفل زفافه إلى الجنة ، كان يستعد لحفل خطوبته فى نفس الوقت الذى يتمنى فيه الاستشهاد فداء لتراب مصر ، تحدث مع شقيقه الوحيد طالب الثانوى قبل استشهاده ليوصيه بدعوة كل الأحباب لحضور عرسه ، وقال لوالدته فى آخر مكالمة : "عاوزين نفرح ياحاجة ونفرح أهلنا اعزموا كل الناس على الفرح" ، فشيعه كل المصريين إلى الجنة ، بينما أصر شقيقه على أن يكمل مسيرته ، مؤكدا رغبته فى الالتحاق بالكلية الحربية ليخدم فى نفس الموقع الذى استشهد فيه شقيقه ويثأر لمصر من أعدائها.
وهكذا مئات الأسر التى ضحت بأغلى أبنائها أو أكبرهم أو عائلها الوحيد ، ووقف أقرب الناس للشهيد متحاملا على أحزانه مغالبا دموعه ، ليعلن أنه مهما بلغت التضحيات فلن تتوقف البطولات وأنهم مستعدون لتقديم الغالى والنفيس لتطهير مصر من الإرهاب .
أمهات قهرن الحزن وأطلقن الزغاريد فى وداع أغلى الأبناء ، وأطفال عرفوا فى المهد معنى البطولة والتضحية ، ضرب أصغرهم أروع مواقف الرجولة وعرف كيف يثبت أمام جثمان والده الشهيد ليبعث رسالة للعالم بأن الإرهاب سينسحق فى بلد خير أجناد الأرض تحت أحذية الأطفال قبل الكبار ، فحملت بدلة حمزة ابن الشهيد أحمد المنسى وزغرودة أم الشهيد مجند أحمد العربى رسالة أبلغ من أى رد على محاولات استهداف مصر وإرهاب أهلها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة